![]() |
|
« آخـــر الــمــواضــيــع »
![]() |
|
أدوات الموضوع
![]() |
انواع عرض الموضوع
![]() |
#1
|
|||
|
|||
![]()
بحث الاستاذة ام عباس ( وجعلته سيدا من السادة وقائدا من القادة ) لشهر محرم 1436هـ ( البحث كاملا )
وجعلته سيدا من السادة وقائدا من القادة (1) محرم 1436 عندما تجد الأمة قيادتها ورد في زيارة الأربعين للإمام الحسين عليه السلام: (اللّـهُمَّ إنّي أشْهَدُ اَنَّهُ وَلِيُّكَ وَابْنُ وَلِيِّكَ وَصَفِيُّكَ وَابْنُ صَفِيِّكَ الْفائِزُ بِكَرامَتِكَ، أكْرَمْتَهُ بِالشَّهادَةِ وَحَبَوْتَهُ بِالسَّعادَةِ، وَاَجْتَبَيْتَهُ بِطيبِ الْوِلادَةِ، وَجَعَلْتَهُ سَيِّداً مِنَ السادَةِ، وَقائِداً مِنَ الْقادَةِ، وَذائِداً مِنْ الْذادَةِ، وَأعْطَيْتَهُ مَواريثَ الأنْبِياءِ، وَجَعَلْتَهُ حُجَّةً عَلى خَلْقِكَ مِنَ الأوْصِياءِ، فَأعْذَرَ فىِ الدُّعاءِ وَمَنَحَ النُّصْحَ، وَبَذَلَ مُهْجَتَهُ فيكَ لِيَسْتَنْقِذَ عِبادَكَ مِنَ الْجَهالَةِ وَحَيْرَةِ الضَّلالَةِ). عنوان البحث مقتبس من هذا النص المبارك (وجعلته سَيِّداً مِنَ السادَةِ، وَقائِداً مِنَ الْقادَةِ). ويدور حول مؤهلات القيادة وعناصرها الأساسية. هذه المادة واسعة ولها أبعاد كلامية وفقهية وعقائدية وأخلاقية سنتطرق إليها بما يخدم فهم هذه العبارة. هناك أوصاف وسمات كثيره للإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه، ويمكن تقسيمها من عدة حيثيات. ولكن سنقسمها بما يتناسب وحديثنا إلى صفات ذاتية وصفات إضافية. - الصفات الذاتية: هي الصفات التي لا يتوقف تصورها وفاعليتها على وجود طرف آخر. ككون الإمام الحسين عليه السلام معصوم أو حبيب الله أو حجته على خلقة -فالحجة في الرواية قبل الخلق- أو أنه خامس أهل الكساء. هذه الصفات تخص الإمام الحسين (ع) ولا تحتاج إلى طرف آخر. ومعرفة هذا النوع من الصفات يزيد المعتقد بالإمام الحسين معرفة وإيمانا به. - الصفات الإضافية: هي التي لا يمكن تصورها إلا بتصور طرف ثان، ومنها أن الإمام الحسين (ع) قائد أو سيد أو إمام أو ذائد. فلا يمكن تصور القيادة إلا بوجود مقودين، ولا إمامة إلا بوجود مأمومين .. وهكذا. وكما أنها معرّفات للأمام عليه السلام فهي أيضا معرفات لكل الناس، ولا تتحقق إلا بتصور علاقة الناس بالإمام ودور الناس حيال هذه العلاقة. ومن طبيعة الصفات الإضافية أنها تحدد نوع الاتصال بين المضاف والمضاف إليه، وتعين درجة الاتصال والمسافة بينهما. ومعرفة هذه الصفات تحمّلنا دوراً ووظيفة. غاية البحث: سيكون حديثنا حول هذه الصفات التي جعلها الله للإمام الحسين عليه السلام لنحقق التالي: 1. أن نعرف موقفنا منه ومن منهجه عليه السلام، وموقعنا في هذه الحلقة النورية التي يمثلها الإمام الحسين ضمن سلسلة أولياء الله ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَىٰ﴾ [المؤمنون: 44]. 2. أن يشكل ما نعرفه من موقعية الإمام الحسين كقائد وسيد بوصلة يجب ألا تضيع علينا في تضاعيف حياتنا، وبها ينبغي أن نحدد مسارنا وطريقنا وطريقتنا (1) خصوصا مع مرورنا بهذه الظروف المتغيرة، التي نحتاج فيها إلى تحديد المؤشر لسلامة سلوكنا ومدى استقامتنا على المستوى الفردي والاجتماعي وعلى نطاق الأمة. 3. أن نستعين بمعرفة عناصر القيادة الموجودة في الإمام الحسين عليه السلام في تحديد القيادات في أوساطنا، فالزيارة عبرت بأن الإمام الحسين سيد (من السادة) وقائد (من القادة)، وهي في ضمن ذلك توحي بأن حاجة المجتمع للقيادة هي ما يقره العقل والشرع. وعناصر القيادة التي هي في المعصوم تامة كاملة يفترض أن تتوفر بقدر في أشخاص على مستوى الأمة في كل زمان ومكان. بداية نحن أمام عدة مفاهيم أساسية ينبغي معرفتها للوصول إلى النتيجة وهي: 1/ الجعل الإلهي 2/ السيادة 3/ القيادة وسنفصل في كل منها بما يلي: مفهوم الجعل في القرآن سوف لن نقف على معنى الجعل من ناحية لغوية، بل من جهة قرآنية (2). استعمل (الجعل) في القرآن في موارد عديدة بمعنى يرادف (الخلق)، إلا أنه يختص بالبعد المعنوي لا المادي. فإذا تحدث القرآن عن الجانب المادي للأشياء ومنها الإنسان فهو يعبّر بالخلق ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ﴾ [ص: 71] ﴿ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا﴾ [المؤمنون: 14] وأما إذا كان الحديث عن الجانب المعنوي فإن القرآن يعبر عنه بالجعل ﴿.. إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً..﴾ [البقرة: 30] ﴿.. إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ..﴾ [المائدة: 20] فالخلافة والنبوة مقامات معنوية، لأن الجعل هو التحويل والتبديل من حال إلى حال أرقى وأكثر شرافة، وهو صيرورة وتبدّل في جوهر الإنسان. وهذا ما درجت عليه الأدعية الواردة عن أهل البيت (ع) أيضا. جاء في دعاء كميل (وَاجْعَلْني مِنْ أحْسَنِ عَبيدِكَ نَصيباً عِنْدَكَ، وَاَقْرَبِهِمْ مَنْزِلَةً مِنْكَ، وَاَخَصِّهِمْ زُلْفَةً لَدَيْكَ، فَاِنَّهُ لا يُنالُ ذلِكَ إلاّ بِفَضْلِكَ) وورد في دعاء عرفة (اَللّهُمَّ اجْعَلْني اَخْشاكَ كَاُنّي اَراكَ، وَاَسْعِدْني بِتَقواكَ، وَلا تُشْقِني بِمَعْصِيَتِكَ). اللهم اجعلني أخشاك كأني أراك وأسعدني بتقواك ولا تخزني بمعصيتك) وأيضا (اجْعَلْنِي مِمَّنْ رَضِيتَ عَمَلَهُ وَقَصَّرْتَ أَمَلَهُ، وَأَطَلْتَ عُمْرَهُ، وَأَحْيَيْتَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ حَيَاةً طَيِّبَةً) فالإنسان مخلوق بشراً من طين، ولكن هناك مراحل تطال جوهر الإنسان تأتي لاحقة على بشريته. هذا النحو من الجعل يجري على سائر المخلوقات أيضا. فالقرآن يعبّر عن الجنبة المادية من وجودها بالخلق، ويعبّر عن آثارها المعنوية بالجعل. يقول تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّور..﴾ [الأنعام: 1] السماوات والأرض وجود مادي، ولذا عبر عنه بالخلق. أما نظام الظلمات والنور فليس كذلك، فبه تحيا الموجودات وتنمو وتتكامل. إذن الجعل هو مرحله راقيه جداً بالقياس إلى الخلق. وأعلى جعل أعطاه الله لمخلوق كان لمحمد وآله عليهم السلام، جاء في الزيارة الجامعة: (فَجَعَلَكُمْ بِعَرْشِهِ مُحْدِقينَ حَتّى مَنَّ عَلَيْنا بِكُمْ، فَجَعَلَكُمْ فى بُيُوت اَذِنَ اللهُ اَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فيهَا اسْمُهُ). ولعله من أجل هذه النكتة خص الله نبيه محمدا صلى الله عليه وآله بالخطاب حين تحدث عن جعل آدم خليفة فقال: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ يقول أستاذنا الشيخ الجوادي الآملي جاء الخطاب بصيغه المفرد (ربك) وخصّ الرسول الأكرم بها مع أن مقام جعل خليفه لله يرتبط بنوع الانسان، وذلك لأن فعلية المقام في المرتبة الكاملة يختص بالكمّل ثم الأدون والأدون ولا اختصاص له بآدم. ولأن النبي محمد صلى الله عليه وآله قد حظى بأعلى درجات الخلافة الإلهية وهو أعظم اسم تعلمه آدم من أسماء الله فقد جعل (ص) معيارا ومِلاكا لمقام الجعل هذا، فكل مجعول لخلافة الله في الأرض فمقامه بميزان محمد صلى الله عليه وآله. مفهوم الجعل في الروايات على ما يظهر أن المفهوم القرآني الذي أسلفنا بيانه للجعل كان بديهيا إلى حد أنّ أصحاب الأئمة تلقوا هذا المفهوم بنفس المعنى (أي علو المرتبة والمكانة المعنوية) ففي مقبولة عمر بن حنظلة نجد هذا التعبير: روى محمد بن يعقوب في الكافي عن محمد بن صفوان عن محمد بن الحسين عن محمد بن عيسى عن صفوان بن يحيى عن داود بن الحصين عن عمر بن حظلة قال: سألت الإمام جعفر الصادق (ع): عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دَين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة أيحل لهم ذلك؟ قال (ع): من تحاكما إليه في حق أو باطل فإنما تحاكما إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سُحتاً وإن كان حقاً ثابتاً له، لأنه أخذه بحكم الطاغوت، وما أمر الله أن يكفر به قال الله تعالى: ﴿ ..دد؟يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ..﴾ [النساء: 60]. قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران من كان منكم ممن قد روي حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا ردَّ، والراد علينا راد على الله، الراد على الله وهو على حد الشرّك بالله. (فإني قد جعلته عليكم حاكماً) هذه العبارة تعدّ الجعل مرتبة معنوية تعتمد على إمكانيات واقعية. وأقل ما يستفاد من هذه الرواية منصب القضاء، وسوف يأتي نقاش ذلك في طيات البحث. أقسام الجعل يمكن تقسيم الجعل إلى 1. تكويني 2. تشريعي 3. استعدادي 1/ الجعل التكويني: هو نوع جعل ينتخبه الله سبحانه ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ..﴾ [الحج: 75] فالله ينتخب من الناس رسلا ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ [الأنبياء: 73] ومن الملائكة ﴿جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ [فاطر: 1]. فليس كل الناس رسلا، ولا كل الملائكة رسل، بل هناك من يجعله الله سبحانه انتخابا واصطفاء. 2/ الجعل التشريعي: وهو أن يرضى الشارع وضع شخص في موضع معين وفق اعتبارات معينة. وهو يختلف عن الجعل التكويني الذي يعني العصمة والكمال التام. ومثاله تولية أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الأشتر، هذا الجعل من الأمير (ع) لمالك يجعل طاعته واجبة ومخالفته لا تجوز، ليس لأنه معصوم ورأيه يطابق الواقع بل لأنه منصّب من قبل المعصوم. وهو عين دليل من يقول بولاية الفقيه، فالولي الفقيه مجعول باعتبارات رضيها الشارع المقدس، وهو لا يحكم بالواقع بل بما يراه من مصلحة باعتباره الأكفأ، ومخالفته مخالفة للشرع. 3/ الجعل الاستعدادي: وهو جعل شأني لدى الإنسان بحيث يمكن أن يكوّن أرضية لمشاعر وأخلاقيات معينة. ومثاله ما جعله الله من مودة ورحمة بين الزوجين ﴿..وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً..﴾ [الروم: 21] فالأصل هو عدم وجود العلقة بين الجنسين لكن الاستعداد للمودة والرحمة موجود. وهذا لا ينفي وجود موانع تنفي فعلية الاستعداد. ما نريد أن نصل إليه هو أنّ سيادة الإمام الحسين عليه السلام وقيادته تكوينية وتشريعية واستعدادية في آن واحد، لأن من وجد التكوين فقد طابق ذلك التشريع والاستعداد من باب الأولوية. ومن يملك الجعل التكويني يكون له القدرة والاستعداد للتأثير والهداية. أصحاب الإمام الحسين عليه السلام لمسوا هذه القيادة والسيادة في الحسين عليه السلام، في وسط ذلك الشوش والتيه الذي كانت تغرق فيه الأمة. اثنان وسبعون شخصا فقط هم من وجد القائد السيد وشخصوه وانقادوا له. بينما انبرت الأمة لتكون ممن أسرجت وألجمت وتنقبت لقتاله. إلا لعنة الله على الظالمين ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــ (1) الطريقة هي باطن الشريعة، فهناك شريعة تتمثل في مجموعة الممارسات الشرعية كالصلاة والحج وغيرها، وهناك طريقة هي باطن هذه العبادات. (2) القرآن والروايات تعطي الألفاظ دلالات مختلفة عن الدلالة اللغوية الصرفة، فالتقية مثلا ترجعها اللغة إلى جذر واحد مع التقوى والوقاية، لكنها في الاصطلاح الديني تعني إخفاء المذهب والأمن من الضرر. |
#2
|
|||
|
|||
![]() وجعلته سيدا من السادة وقائدا من القادة - 2 القيادة الصالحة جعل إلهي (2) قلنا أن حديثنا سيكون حول خصائص القيادة وضرورة وجود القائد في كل زمان ومكان. وقلنا أنه قبل الدخول في تفاصيل ذلك لا بد من بيان وتوضيح ثلاثة مفاهيم هي: الجعل - السيادة - القيادة. وقد فصلنا الحديث حول (الجعل)، وسنتمّ الحديث حوله أيضا في هذه الجلسة. الجعل كمال وترقّ في شقّي الصلاح والفساد ذكرنا أن الجعل هو: صيرورة معنوية وتحول وانقلاب وترقٍ وكمال في أصل الأشياء وذكرنا الجانب الكمالي في هذه الصيرورة. على أن هناك فرق بين استخدام مصطلح الكمال بالمعنى الفلسفي واستخدامه بالمعنى العرفي ، فالكمال في المعنى العرفي يُفهم منه النمو الإيجابي في جانب الفضائل, أما الكمال بالمعنى الفلسفي فيعني وصول الشيء إلى هدفه. وهذا يعني أنه يشمل – أيضا- جانب التسافل والفساد. فكل الموجودات-وفق المباني الفلسفية- مشمولة بنظام الحركة الجوهرية، ولذا حتى الانحدار إلى الدركات السفلى هو – أيضا- وصول إلى الغاية والهدف. في ذلك يقول الله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ ﴾ [القصص: 41]. فالمنحرف يهدف إلى الوصول إلى اللذة والجبروت والسلطة وهذا بالنسبة إلى مقصودة تكامل، والجعل في الآية السابقة ناظر إلى هدف أولئك. فإذا ما امتلأ الإنسان بالقوة السبعية والحيوانية وصار قلبه أقسى من الحجارة فإنه قد وصل إلى صيرورة يتسافل بها ويصبح إماما إلى النار. وورد الجعل أيضا في قصة نبي الله إبراهيم : ﴿فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلاَّ كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ﴾ [الأنبياء: 53] فقد كانت للأصنام في نفوس المشركين موقعية ليست هي موقعيتها الحقيقية، لذا جعلها خليل الله جذاذا وحولها إلى حقيقتها الواقعية وذلك بتحطيمها ليسلب من النفوس حالة القدسية الوهمية لها. ومنه أيضا ما جاء في دعاء عرفه (لَا تَذَرْنِي فِي طُغْيَانِي عَامِهاً، وَ لَا فِي غَمْرَتِي سَاهِياً حَتَّى حِينٍ، وَ لَا تَجْعَلْنِي عِظَةً لِمَنِ اتَّعَظَ، وَ لَا نَكَالًا لِمَنِ اعْتَبَرَ... وَ لَا تَجْعَلْنِي لِلظَّالِمِينَ ظَهِيراً، وَ لَا لَهُمْ عَلَى مَحْوِ كِتَابِكَ يَداً وَ نَصِيراً، وَ حُطْنِي مِنْ حَيْثُ لَا أَعْلَمُ حِيَاطَةً تَقِينِي بِهَا..). لكن سياق حديثنا لن يتناول هذا الجانب من الجعل, بل سيتناول الجعل الإلهي في جانب الكمال الإيجابي الذي يساوي السعادة والفوز والشرف والرفعة. الجعل في حركته التكاملية نوعان - جعل الفرد. - جعل الأمة. 1- جعل الفرد: كما الإمام الحسين صلوات الله عليه ، على ما ورد في نص زيارته (وَجَعَلْتَهُ سَيِّداً مِنَ السادَةِ، وَقائِداً مِنَ الْقادَةِ), وكما في قول الله لنبيه داوود عليه السلام: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾ [ص: 26]. بمقتضى ربوبية الله وحاجة الناس للحاكم فإن الله يختار وينتقي من خلقه أفرادا لهم امتيازات خاصة ثم يضفي عليهم كمالا إضافيا ليكونوا خلفاء ويحكمون بين الناس بالحق. والناس من حيث الأصل مسلطون على أنفسهم وأموالهم وهذا من حكمة الله (1)-لأن طريق الكمال اختياري وانتخابي- وفي الأصل لا حاكمية لأحد على أحد، ولكن الإنسان يحتاج إضافة إلى هذه الذخيرة والرأسمال الأساسي (العقل- الإدراك – التجربة ..) التي وهبه الله إياها إلى راس مال إضافي هو (الجعل) الإلهي. فعندما يجعل الله داوود خليفة للناس يحكم بينهم بالحق، فإنه قد جعل له علاوة على رأس ماله الأصلي نورا إضافيا وقدرة على التشخيص وتحديد المصلحة. هذا ما يعنيه الجعل الإلهي للفرد. 2- جعل الأمة: وهو مورد حديثنا، ومعناه إضافة كمال وشرف ورفعة للأمة. يقول الله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: 143]. هذه الآية من الآيات المهمة في الدائرة الكلامية والعقائدية والفقهية, وهي تتكلم عن جعل استعدادي تشريفي معنوي تعظيمي للأمة لا للفرد وعلى ذلك أدلة: الدليل الأول: الدليل اللفظي في قوله (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) فـ (ذلك) في اللغة العربية إشارة إلى البعيد، فالله – مثلا- حينما يريد أن يتكلم عن القرآن الذي نقرؤه بين أيدينا يقول: ﴿ذَلَك الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 2] و يشير بـ (ذلك) إلى تلك المعاني والمطالب الراقية في القرآن ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الزخرف: 4]. و(كذلك) التي وردت في الآية فيها نفس النكتة فهي تشير إلى العالي المرتفع (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ)أي أنه جعْل رفيع عالٍ وبه كرامة وتشريف وترقٍّ للأمة، كما أن الشروع بها يشير إلى جعل مرتبي في درجة رفيعة. الدليل الثاني: السياق الذي نزلت فيه الآيات، فإننا نجد الحديث في عامته عن خصائص هذه الأمة. فالآيات السابقة كانت عن نبي الله إبراهيم وبنائه للبيت المشرّف، ودعائه أن يجعل البيت مثابة للناس وأمنا، وأن يجعل مقام إبراهيم مصلى، إلى أن صارت الآيات إلى قول تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ..﴾ [البقرة: 144] وإنما قال يرضاها رسول الله صلى الله عليه وآله لأنه كان يولي وجهه في السماء باحثا عن قبلة يرضاها، فلم تكن قبلة بيت المقدس مرضية عنده، لأنها ليست بمستوى طموحه لهذه الأمة، وتحويلها هو استجابة لدعاء إبراهيم عليه السلام. هذه الأبعاد وهذا الطموح النبوي لم يكن معلوما لدى السفهاء, لذا قال القرآن ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [البقرة: 142] السفيه هو سخيف العقل والفهم، والخفيف في ردود أفعاله وهذا لن يفهم الفضيلة والملاك الذي من أجله تغيرت القبلة، وسيستشكل على القرار الإلهي قبل أن يفهمه, لأن السفيه لا يعرف معايير التوحيد وجذوره، وأن إبراهيم هو المرجع الأول لكل الديانات الإلهية, واختصاص المسلمين بالقبلة يعني قربهم من النبي إبراهيم ونسبتهم له، بخلاف سائر الأمم المليّة التي تتنازع على نسبة الخليل إليها. إن تغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة التي بناها إبراهيم هو استجابة لدعاء الخليل وهو وقوع ملحمة من الملاحم الغيبية, ودلالة على صحة سير رسالة الأنبياء, وهذا لا يعلم تفاصيله إلاّ الموحدون، وهو شرف لهذه الأمة إذ تحولت لها مسيرة الأنبياء بعد أن كانت في نسل إسحاق. ومن لا يفهم هذا فهو سفيه لأنه يتكلم ويحكم دون اطلاع على التوحيد وتاريخ النبوات، ولا على تدبير الله تعالى وحفظه للقيادة الإلهية. في هذا السياق الذي يتحدث عن تشريف هذه الأمة جاءت (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) لتوضح أنه في سياق هذا الكمال هناك مرتبة ثانية وموضوع آخر غير تغيير القبلة، وهو موضوع جعل هذه الأمة أمةً وسطا، وبالالتفات إلى هذا الملاك فإن هذا الشرف والرفعة لا يشمل كل الأمة. فالأمة فيها المكابر والمنافق والمنحرف وغيرهما، على غرار ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104]. ماهي الوسطية ؟ سنعرض رأيين حول مفهوم الوسطية: الرأي الأول: الوسطية هي الاعتدال: ذهب البعض إلى أن الوسطية هي الاعتدال بين الإفراط والتفريط. والمعنى أن الدين الإسلامي بالقياس إلى بقية الأديان الإلهية دين معتدل، فاليهود قد ابتلوا بالإفراط في الميل إلى الدنيا والحرص والبخل والوجاهة (2) ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 96]. ولهذا جاءت المسيحية برسالة روحية وطرح تزهيدي فيه إعراض عن الدنيا لتعالج ذلك الإفراط والحرص على الحياة الذي ابتلي به اليهود. وملاحظ أن الثقافة المسيحية ما تزال مبنية على ترقيق القلب (الإشراقية) حتى اخترعوا الرهبانية وانعزلوا عن القيادة وعن إدارة الشؤون الاجتماعية وعن معالجة الظلم ﴿...وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [الحديد: 27]. مع الإشارة إلى أن الله لم يذم حالة الرهبة من الله لأنها كمال روحي مطلوب، وكلمة ابتدعوها لا تعني هنا البدعة بالاصطلاح الديني اليوم أي إدخال ما ليس في الدين في الدين، بل هي بمعنى الابتكار الذي يبغون به وجه الله تعالى، فلما لم يتوازنوا في اندفاعهم الروحي ولم يرعوها حق رعايتها كانت موضع ذم.(3) ومعنى وسطية الأمة الإسلامية هنا هو أنها لم تقع في إفراط اليهودية ولا في تفريط المسيحية، فهي لا شرقية كالمسيحية ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا﴾ [مريم: 16] ولا غربية كاليهودية ﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ..﴾ [القصص:44] بل إن تعاليم الدين الإسلامي وسطية على الجادة. 2- المعنى الثاني للوسطية: دور عملي هو الشهادة على الناس. وهذا الرأي يذهب إليه صاحب الميزان, فيقول أن الرأي الأول صحيح في حدّ ذاته, ولكنه ليس المراد في الآية، والشواهد الداخلية والخارجية الحافة بالآية لا تتحدث عن هذا المعنى، وذلك لدليلين: 1- أن الآية هنا لا تصف الدين الإسلامي بل تصف أتباع الدين الإسلامي، فهذا الجعل ليس للدين وإنما للمتدينين. فالدين وصف في قوله : ﴿... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا...﴾ [المائدة: 3] بينما الأمة هي المعنية في قوله (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا). 2- مصطلح التوسط بمعنى الاعتدال يستخدم للتعبير عن التوسط الأفقي، لكن نفس الآية تتحدث عن توسط طولي لا أفقي (لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ) و (على) في الآية تفيد العلو والرفعة، فالميزان والمعيار ليس بين طرفين أحدهما في الشرق والآخر في الغرب بل بين طرفين أحدهما عالٍ والآخر دان. فالوسطية هي الدور العملي الذي يحقق الاستعلاء على بقية الناس, وبه يتحقق مفاد الشهادة على الناس. بحسب هذا الرأي يكون معنى الجعل هنا أن هذه الأمة قد جعل لها مرتبة ورفعة وقيادية وسيادية واقعية على سائر الناس, فهذه الأمة ليست أمة مسلوبة الوظيفة في الزعامة والشهادة على الأمم بل لها دور وعمل وشخصية. ثم إن هذه الصفة (الشهادة) هي جعل فيه شرف ورفعة لأنه مرتبة بين الرسول والناس من جهة ولأنه إضفاء صفة من صفات النبي لهذه الأمة ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ [الفتح: 8] هذا الوصف الذي يعد من أبرز صفات القيادة قد أعطي لهذا الأمة. يتبع |
#3
|
|||
|
|||
![]()
وصفات الشاهد هي صفات مثلها رسول الله صلى الله عليه وآله، وعلى ضوئها نأخذ صفات الشهادة التي يجب أن تقوم بها أمته صلى الله عليه وآله:
1- أن يكون نموذجا وميزانا ورمزاً في الاستقامة: فإذا كان الإنسان غير مستقيم فلا يمكن أن تقبل شهادته. 2- موقعه القيادي وإشرافه على الأمة, فهو صلى الله عليه وآله له موقع إشراف على هذه الأمة. نفس هذه الخصائص هي للأئمة عليهم السلام بالأصالة وللأمثل من الأمة بالتبع. إذن هذا جعل جماعي ووظيفة عملية ودور أنيط بالأمة بجعل من الله، ويجب أن تكون الأمة بقدر هذا التشريف. ولأنه جعل إلهي وروحي ومعنوي وله رصيد واقعي لذا يمتاز كليا عن الجعل الاعتباري. وليس هناك من شك أن هذه الأمة فيها من هؤلاء النخب النوعيين الذين يستطيعون تحديد الواقع وقراءة الأحداث, ولا شك أن وجودهم هذا كرم وعطية ولطف إلهي ينبغي تقديره. وأشد بلاء تقع فيه الأمة هو أن تفرط في قياداتها. بعض الأمم يهبهم الله أحسن قيادات ولكنهم لا يعرفون حقها, وهذه الأمة عانت في القرون الأخيرة من هذه المشكلة, وليس قتل الشهيد الصدر عنا ببعيد، وهو الذي لا ينقصه من خصائص القيادة شيء. حين تقتل الأمة قياداتها تكون قد وصلت إلى نقطة الصفر. الذي حدث في هذه الأمة بعد وفاة رسول الله ص هو الانحدار والتسافل، ولم يبق فيها من يحمل هذه الخصوصية إلا هذه المجموعة التي خرج بها الإمام الحسين (ع). يقول أستاذنا الشيخ الجوادي: لو كان في الأمة شخص إضافي يستحق أن يكون مع الإمام الحسين لدعاه الإمام (ع) وأخذه معه إلى كربلاء. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــ (1) القاعدة الفقهية الأولية تجاه كل شيء هي الإباحة، وأن للإنسان مطلق العنان في أن يفعل في نفسه وماله ما يشاء، فالله قد خلق الإنسان حرّا، وفي هذه الحرية كمال له، وبها يصبح أكثر اقتدار على الانتخاب والتجربة وتشخيص الواقع وبالتالي أكثر تكاملا، وبمقدار التضييق على حرية الإنسان يصبح أكثر محدودية وأقل قدرة على التشخيص. وبالنظر إلى المحرمات في الدين فإنها جاءت محصورة في واحد وسبعين محرما، بينما لا حصر للمباحات، لأن معنى الإباحة ترك المجال لأن يعمل الإنسان عقله وإدراكه وفهمه وقدراته ويتكامل. (2) وقد ابتلى الله اليهود بمنع الصيد يوم السبت ليعالجهم من مرض الحرص والبخل: ﴿واسألهم عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ [الأعراف: 163]. (3) يشبه حالة الرهبنة ما نراه اليوم من بعض مظاهر الجزع على الإمام الحسين عليه السلام, فالجزع على الإمام الحسين أمر مطلوب ودلالة على الانفعال والصفاء الروحي، أما تحويلها إلى طقوس وحالة من الجنون فهو أمر آخر غير ما هو مطلوب منه كقطع اليد و خلافه. وبالمناسبة فإن ما أُشيع عن أحد أنصار الإمام الحسين وهو (عابس) من أنه كان مجنون الحسين، هو مما لا سند له فبالتتبع لم نجد كتابا أصيلا يؤكد ذلك الخبر، ولعله قد أُخذت اللفظة من بعض الكتب الفارسية والحال أن مجنون بالفارسية تعني عاشق, لكن للأسف أصبح عابس عنوانا لتبرير الطقوس غير العقلائية، وإلا فإن عابسا لما ألقى بدرعه ودخل أرض المعركة لم يكن لجنون فيه بل هي شجاعة يخيف بها العدو ويرهبه. |
#4
|
|||
|
|||
![]()
سيدا من السادة وقائدا من القادة -3 محرم 1436هـ
الوسطية للأمة دور وضمان (4) الحديث حول القيادة وأثرها على المجتمع, وأنها ذات طرفين قائد وأتباع, وتأثير هذين الطرفين في بعضهما، فكل منهما يصنع الآخر ويبعثه ويعينه على أداء دوره. لقد جعل الله هذه الأمة وسطا لتكون شهيدة على الناس, ومعناه أنه سبحانه أعطاها من المخزون الروحي والمعنوي والفكري والمؤهلات ما يعينها على أداء هذه الوظيفة. جعل الأمة وسطا يدور مدار الشهادة: جعل الأمة وسطا يدور مدار الشهادة على أعمال الناس, وهذا المقام مطلق وممتد للأمة في كل زمان ومكان, وقد ذكرنا أنه ليس من المقامات المختصة بالرسول والأئمة عليهم السلام, فهناك مقامات محصورة فيهم مثل: الرسالة, يقول تعالى: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ﴾ [الحج: 75]، ويقول: ﴿.. اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ..﴾ [الأنعام: 124], والإمامة الخاصة ﴿.. إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا..﴾ [البقرة: 124]. أما مقام العصمة مثلا فهو لا يختص بالمعصومين الأربعة عشر, فكل إنسان مصنوع من مركب إلهي خام يمكن أن يصل به عبر التكامل إلى حدّ العصمة. فبعض أصحاب الأئمة وصل إلى هذا المقام كعمار الذي يدور معه الحق حيثما دار, ولولا فتح باب العصمة لكل البشر لأغلق باب القربى. ومن تلك المقامات غير المختصة بالمعصوم مقام الشهادة. يقول آية الله الشيخ الجوادي: لا توجد أدلة تحصر مقام الشهادة في الأئمة عليهم السلام, بل هناك أدلة تثبت إمكانية حصول ذلك في غيرهم (ع). والقرآن مليء بالآيات التي تدل على أن مقام الشهادة مقام استعدادي منها: الدليل الأول/ قوله تعالى: ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ﴾ [التكاثر: 5-6] أصحاب علم اليقين مطلعين على الجحيم، ليس في الآخرة والبرزخ بل في الدنيا, لأنه في الآخرة الجميع سيرى النار. ورؤية الجحيم لأهل اليقين هي شهادة لحقائق لا يعرفها الناس, ثم إنها ليست رؤية الجحيم بسلاسلها وأغلالها وأصحابها بالمعنى العرفي, بل إن هذا الشهود هو قراءة عميقة للأفراد والمناهج والمواقف الجحيمية, ومعرفة سلاسل وأغلال جهنم التي هي وسائط الخطايا ومقدماتها, وتمييز رائحة جهنم في المواقف والخطابات والسلوك, فالأنانية والجبن وسائر الرذائل ليست إلا جحيما في الواقع. مقام اليقين وهذا الشهود ليس من المقامات العالية الرفيعة التي لا يحصل عليها إلا الأوحد من الناس, فالكثير يصل إلى قراءة حقيقة واقع السعادة والشقاء. الدليل الثاني/ قوله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ [المطففين: 18-21] هناك مقربون يشهدون كتاب الأبرار في هذه الدنيا. هؤلاء المقربون (الشهداء) يقرؤون كتاب الأبرار. ولا يقصد بالكتاب هو الأوراق والغلاف بل الكتاب هو المكتوب. لأننا حين نقول (كتاب) فنحن نعني المعاني الموجودة في الأوراق لا نفس الأوراق, بدليل أنه لو وجدت أوراق فارغة بين دفتين لا يمكن أن يطلق عليها كتابا. هنا نتساءل: ما لذي يشهده الأبرار؟ هل يشهدون أعمال الناس أم مصيرهم؟ يقول الشهيد المطهري: أنهم يشهدون الاثنين, لأنهما في الحقيقة يعودان إلى أمر واحد. فعمل الإنسان وعاقبته وجهان لعملة واحدة, وذلك لأن كل عمل يقوم به الإنسان ينقش آثاره على صفحة وجوده ليكون كتابا مرقوما. والمرقوم: هو الواضح البيّن المقروء. نحن نقول إذا رأينا عملا لا نعرف دوافعه وأسبابه ونتائجه (لم نقرأ الحدث) ونقصد أننا لم نفهمه. أما إذا كان الحدث واضح المعني والبواعث والمنطلقات والنتائج فهو مقروء مرقوم. المقربون يشهدون أعمال ومصير الأبرار, فهم يرون حكمة الأبرار وشجاعتهم وآثارها في وجودهم واضحة بينة (مرقومة) تتميز عن رؤية سائر الناس. مقام الواسطية وسيادة الجماعة في المفهوم القرآني إن وجود هؤلاء (الوسائط) (الشهداء) في الأمة هو ما يقيم عليه الشهيد الصدر مبدأ الولاية. ويفرق رضوان الله عليه بين النظام الغربي في قيادة المجتمع وبين الجعل الإلهي الذي يعتمد على الواسطية. مقام الواسطية جعل واقعي حقيقي كمال معنوي, أو كما عبرنا عنه آنفا بأنه صيرورة وتحول جوهري, فهو بذلك يشكل مائزا واقعيا لشهادة وسيادة الجماعة بالمفهوم القرآني عن حكم الجماعة في النظام الديمقراطي الغربي. يقول الشهيد محمد باقر الصدر في آخر ما كتبه (الإنسان وخلافة الأنبياء): وبهذا تتميّز خلافة الجماعة بمفهومها القرآني والإسلامي عن حكم الجماعة في الأنظمة الديمقراطية الغربية، فإنّ الجماعة في هذه الأنظمة هي صاحبة السيادة، ولا تنوب عن الله في ممارستها، ويترتّب على ذلك أنّها ليست مسؤولةً بين يدي أحد، وغيرُ ملزمة بمقياس موضوعيٍّ في الحكم، بل يكفي أن تتّفق على شيء ولو كان هذا الشيء مخالفاً لمصلحتها ولكرامتها عموماً، أو مخالفاً لمصلحة جزء من الجماعة وكرامته ما دام هذا الجزء قد تنازل عن مصلحته وكرامته. وعلى العكس من ذلك حكم الجماعة القائم على أساس الاستخلاف، فإنّه حكم مسؤول، والجماعة فيه ملزمة بتطبيق الحقّ والعدل، ورفض الظلم والطغيان، وليست مخيَّرةً بين هذا وذاك، حتّى إنّ القرآن الكريم يسمّي الجماعة التي تقبل بالظلم وتستسيغ السكوت عن الطغيان بأنّها « ظالمة لنفسها »، ويعتبرها مسؤولةً عن هذا الظلم ومطالبةً برفضه بأيِّ شكل من الأشكال ولو بالهجرة والانفصال إذا تعذّر التغيير، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الملائِكَةُ ظَالِمِي أنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأويهُمْ جَهَنمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً﴾ [النساء: 97]. قيادة الجماعة المؤمنة وقيادة الجماعة في النظام الغربي: تتميز قيادة الجماعة المؤمنة بـ : 1- الشهادة أمام الله, أو كما يعبر الشهيد الصدر: حكم الجماعة القائم على أساس الاستخلاف والمسؤولية، والجماعة فيه ملزمة بتطبيق الحقّ والعدل، ورفض الظلم والطغيان، وليست مخيَّرةً بين هذا وذاك. والقرآن يصف الأمة التي ترضى بالظلم بأنها ظالمة لنفسها وتستحق النار. وذلك لأن موقف هذه الأمة الراضية بسلب حقوقها لا يمثل الواسطية والجعل الإلهي ﴿إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الملائِكَةُ ظَالِمِي أنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأويهُمْ جَهَنمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً﴾ [النساء: 97]. بينما الجماعة في الديمقراطية الغربية ليست واسطة عن أحد، بل هي صاحبة النظام، تحكي ذاتها ولا تنوب عن أحد في إصدار الأحكام ووضع القوانين، ولا ترى نفسها ملزمة بمقاييس موضوعية في الحكم. 2- الارتباط والتقيد: فان هذه الأمة إنما تمارس الشهادة انطلاقا من مقام الجعل كواسطة مقيّدة بإيصال ما يريده الله, فلا تعمل بهواها أو اجتهادها المنفصل عن توجيه الله بل تقدم حيث يريد الله أن تقدم. ومثال ذلك إعلان الإمام الحسين عليه السلام على رؤوس الملأ أن يزيد شارب الخمر قاتل النفس المحترمة. كل المسلمين كانوا يعلمون ذلك، لأن يزيد كان معلنا ومجاهرا بهذه المعصية, لكن الكل كان يخشى أن يجهر بهذا الواقع لأنّ الأمر سيصل للسلطات وسيحتاج إلى تضحيات. وربما كان الواقع الخانق الذي عاشته الأمة في تلك الظروف جعلتهم -كما يعبر الشهيد الصدر- يعطون أنفسهم المبرر بعدم التصريح بذلك, ولا نستغرب من ذلك, فاليوم شبيه بالأمس، وكلنا يتابع ما يجري في الساحة. الجناة الحقيقيون كتابهم عندنا مرقوم, ولكن من ذا الذي يمكن أن يكون واسطة لله فيعلن عنهم بالاسم والرقم والهوية خصوصا إذا كان شخصية بارزة ولها موقعها الاجتماعي؟! لماذا لم يتحدث الإمام الحسين عليه السلام بلغة دبلوماسية وفنيّة أو يكنّي عن أهدافه من بعيد ليكون ذلك أحفظ لنفسه وعياله وشيعته وأصحابه؟ إنه لم يفعل ذلك؛ لأنه صرف واسطة لا يرى غير واجب الصدق في أداء الوساطة عن الله. ولعل هذا أحد معاني قول الحسين (ع): (ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة. ثم قال: يأبى الله لنا ذلك ورسوله) فالحكم لله والأمر له ولرسوله, ولم يوكل الله للمؤمن أن يذل نفسه فضلا عن أن يتحدث بلسان الأمة ويذلها. |
#5
|
|||
|
|||
![]()
وجعلته سيدا من الساده وقائدا من القاده- 4 محرم 1436هـ
السيادة روح القيادة |
#6
|
|||
|
|||
![]() وجعلته سيدا من الساده وقائدا من القاده- 4 محرم 1436هـ السيادة روح القيادة بعد إيضاح مفهوم الجعل سنتحدث عن موضوع الجعل وهو السيادة والقيادة . هل هناك نكتة في تقديم السيادة على القيادة ؟ هناك قاعدة لغوية تقول : أن الأصل هو عدم ترتيب أثر على تقدم أحد المعطوفين على الآخر مالم يكن هناك تكرار في تقديم أحدهما على الآخر ، فإن لم يكن هناك تكرار في التقديم فلا يعطي للمتقدم أي أهمية أو تميز . (1) وبتتبع سريع للأدعية والزيارات والروايات يلاحظ كثرة تقدم ذكر السيادة على القيادة . منها ما ورد في زيارة أمير المؤمنين (ع) ً اللَّهُمَّ إِنِّي أَتَقَرَّبُ إِلَيْكَ بِزِيَارَتِي إِيَّاهُ وَ أَرْجُو مِنْكَ النَّجَاةَ لِي بِهِ مِنَ النَّارِ بِهِ وَ بِآبَائِهِ وَ أَبْنَائِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ رَضِينَا بِهِمْ أَئِمَّةً وَ سَادَةً وَ قَادَةً (2) ومنها ما ورد عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله قَالَ حُبُّ أَهْلِ بَيْتِي يَنْفَعُ مَنْ أَحَبَّهُمْ فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ مَهُولَةٍ عِنْدَ الْمَوْتِ وَ فِي الْقَبْرِ وَ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنَ الْأَجْدَاثِ وَ عِنْدَ تَطَايُرِ الصُّحُفِ وَ عِنْدَ الْحِسَابِ وَ عِنْدَ الْمِيزَانِ وَ عِنْدَ الصِّرَاطِ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ آمِنًا فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ فَلْيَتَوَالَ عَلِيّاً بَعْدِي وَ لْيَتَمَسَّكْ بِالْحَبْلِ الْمَتِينِ وَ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَ عِتْرَتُهُ مِنْ بَعْدِهِ فَإِنَّهُمْ خُلَفَائِي وَ أَوْلِيَائِي عِلْمُهُمْ عِلْمِي وَ حِلْمُهُمْ حِلْمِي وَ أَدَبُهُمْ أَدَبِي وَ حَسَبُهُمْ حَسَبِي سَادَةُ الْأَوْلِيَاءِ وَ قَادَةُ الْأَتْقِيَاءِ وَ بَقِيَّةُ الْأَنْبِيَاء. (3) وغيرها الكثير إذ بلغت حوالي الـ 44 نصاً تقدم فيه ذكر السيادة على القيادة . هذا من جهة , ومن جهة أخرى فإن السيادة هي روح القيادة , ولا يكون الإنسان قائداً إلا إذا كان سيّدا فالسيادة هي الأصل الذي ينبغي أن يسعى له الإنسان ليمثل الواسطية بين الله وخلقه , فلابد أن تكون نواة السيادة موجودة في من يريد حمل مشروع إلهي فعنها تتفرع إمكانيات القيادة ، وسيتضح ذلك أكثر بعد أن يتجلى لنا مفهوم السيادة . مامعنى السيادة ؟ السيادة في اللغة : ساد من مادة ( سود ): وهو كل ما خالف البياض . وسواد الشيء : شخصه , و إنما سمي السيد سيدا لان الناس يلجئون الى سواده . وورد في كتاب (التحقيق في كلمات القرآن للعلامة حسن المصطفوي) أن السيادة هي : التشخص مع التفوق في مقابل أفراد أخر. اعم من المعنوي و المادي . وفي ( مفردات الراغب ) قال : لما كان من شرط المتولي للجماعة ان يكون مهذب النفس قيل لكل من كان فاضلا في نفسه : سيدا , والسيد هو المتولي للسواد , أي : الجماعة الكثيرة. السيادة ليست العلاقة النسبية حين نزور الإمام بقولنا ( وجعلته سيداً من السادة ) فنحن بلا شك نعني مفهوماً مختلفاً عن السيادة النسبية لأن هذا الاصطلاح ـ السيد بمعنى ابن النبي ـ مستحدث وجديد ولا أصل له في اللغة ولا في الاصلاح الشرعي إذ إننا نخاطب الله سبحانه وتعالى بـ( يا سيد السادات ) . نعم ، وإن عُدّ الانتساب بالولادة للنبي وللصديقة الطاهرة عليهما السلام كمالا إلا أنه كمال مشروط . وإذا كان الانبياء يدعون لذراريهم خاصة فليس لموقعية خاصة في نفوسهم لأبنائهم ، فطلب النبي إبراهيم الإمامة لذريته في الآية ( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ) البقرة : 124 و ( اجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ ) إبراهيم : 35 ، هو دعاء لأن تكون ذريته فداءً للإنسانية لأن معنى الإمامة والقيادة هو أن تقدم رأسمالك في سبيل هداية الأمة ، ومعنى ترك عبادة الأصنام والكفر بالجبت ومقاومة الطاغوت هو مواجهة ما يترتب على هذه المقاومة من نتائج من قبيل الإلقاء في النار والتحريق والتهديد والطرد والسجن والإبعاد والقتل . وهذا الدعاء إنما يستبطن الرغبة في هداية الناس فكل ذلك مقدمات لسوق الناس للحق وخلق الفرصة للناس لمواجهة الطغاة . أن يكون الإنسان ( ذبيح الله ) فهذا يحتاج الى تضحيه كبيرة وهذا ما طلبه نبي الله إبراهيم عليه السلام . ومن هذا المنطلق نجد أن الأولياء والأنبياء قد خصوا ذريتهم بالدعاء بالدرجة الاولى . السيادة بالمفهوم الإلهي السيادة بالمفهوم الإلهي هي الهوية الذاتية التي يحصل عليها الإنسان بعمله وسماته وشمائله . إن الجمل الواردة في الزيارة هي في مقام المدح والثناء ، ولا يكون المدح إلا على الأمور الإختيارية ولا شك أن تحصيل هذه الهويّة هو جعل وصيرورة وتحوّل جوهري يحكي الحركة التكاملية في ذات الإنسان . (4) إذن السيادة مقام واقعي ، وهي تتقوّم بشرطين : 1- الشرط الأول : تهذيب النفس ومحاصرتها : هذه الصفة هي العمدة في الحصول على السيادة , وهي ما أشار إليه القران في حديثه عن يحيى بن زكريا عليهما السلام فقال ( وَسَيِّدًا وَحَصُورًا ) آل عمران : 39 الحصار هو السجن ، والحصور ليس هو من لا يتزوّج ، بل هو الذي يحاصر شهواته ورغباته .ولابد للسيد أن يكون حصوراً , لأنه كثيرا ما يقع ذو الموقع والوجاهة في وهم التفرد والتميّز على الآخرين فيطلق العنان لنفسه وشهواته , وتنتفخ فيه الذاتية فيمارس ما تمليه عليه نفسه بلا رقابة فيبيح لنفسه ما لا يبيحه لغيره ، في الوقت أن أحوج ما يكون الإنسان لمحاصرة نفسه وتهذيبها حين يكون له مقام وموقع ورفعه بين الناس . التعاطي السليم مع النفس في حال الحصول على موقع ومقام هو ما جاء في دعاء مكارم الأخلاق : (وَلا تَـرْفَعْنِي فِيْ النَّاسِ دَرَجَـةً إلاّ حَطَطْتَنِي عِنْدَ نَفْسِي مِثْلَهَا) الإمام زين العابدين عليه السلام في هذا المقطع من الدعاء يطلب من الله أن يريه حجمه الواقعي ، فإذا ما ارتفع الإنسان بين الناس وأصبحت الناس تلجأ إليه وتحف به وأصبح له تفوق خاص فإن هذا يعني صفارة إنذار تنبئه بأنه في خطر . وإذا أراد الله به خيراً أراه حجمه الواقعي فحطه في نفسه بنفس قدر ارتفاعه في نظر الناس . هذه هي السيادة الواقعية، وهذا بلا شك يحتاج إلى ضبط شديد جداً بل يحتاج إلى محاصرة للنفس . إذن أهم خصوصيات السيادة التي يجعلها الله سبحانه وتعالى هي أنها سيادة تكاملية ، سيادة الترقي . فالسيد في المفهوم القرآني هو الرفيع المنزلة في ذاته , وهو من يقصده سواد الناس ويتشخّص لونه عنهم ولكن بامتيازات واقعية . السيادة في الروايات لقد تحدثت الروايات عن السيادة بذات المفهوم القرآني القائم على حصار النفس وترقيتها . جاء عن الإمام علي عليه السلام (السيد : من لا يصانع ، و لا يخادع ، و لا تغره المطامع) (5) . عادة نقرأ هذه المعاني قراءة أخلاقية , لكن دعونا نرفع سقف القراءة من الحدّ الأخلاقي إلى الحدّ الزعامتي والقيادي . السيد لا يصانع . المصانعة في اللغة هي المداهنة والملاينة , والمصانعة أيضا عند العرب هي البيع والشراء , وهذا لا يتناسب والسيادة , لأن السيد صاحب مبدأ وموقف ثابت , وهذا لا يتناسب مع المصانعة التي تجعل الإنسان لا يسجل موقف خلاف مع أحد , ويسعى أن لا يخسر أحداً , يقول الشهيد المطهري : المنافق فقط هو الذي لا يخسر أحداً . نحن لا ندعو إلى التمزيق الداخلي وتفجير الواقع الاجتماعي فنحن مأمورون بمداراة الناس , لكن بالالتزام بالمبادئ التي هي أهم سمات السيادة الواقعية . ثم إن السيد لا يخادع ، والمخادعة ليست كالرياء أي أن تختص بالعبادات فقط , فالمخادع هو من يشتري الوجاهة بأي ثمن كان حتى لو كان الثمن أن يظهر متديناً متعبداً , أو أن يشتريها بالهروب من الموقف الجاد أو بموافقة الرأي العام ، هذا كله ينافي السيادة لأن السيد من ليس في رقبته بيعة لأحد سوى لله. وأخيراً السيد لا تغريه المطامع . من المعلوم أن صاحب أي موقع وسيادة تحيطه الإغراءات الكثيرة ، فإذا انساق لها كان ذلك كاشفاً عن أنه لم يحاصر رغباته وشهواته ولم يصل إلى مرتبة السيادة . 2- الشرط الثاني : صناعة العزة للآخرين: من أهم آفات الموقع والوجاهة والسيادة الوهمية هي التشبث بالموقع ، وهذا يقتضي إقصاء الكفاءات أو تعطيلها , بينما تقوم السيادة في القراءة الدينية على بناء الكفاءات وتطويرها وإبرازها . فاذا كان الانسان سيداً في مجال العلم الديني فيجب أن يقدّم هذا العلم خدمة للناس ليكونوا علماء ، وإذا كان سيداً في علم الطب فيجب أن يبذل ذلك من أجل نفع الناس وهكذا ، لأن السيد سخيّ . ( لما سئل الإمام الصادق عليه السلام عن السؤدد قال : السخاء، ويحك أما رأيت حاتم طي كيف ساد قومه، وما كان بأجودهم موضعا ؟!) (6) . والإعطاء هنا بلا شك أعم من إعطاء المال وإن كان منها ، بل السخاء هو فتح المجال لكل الطاقات باكتشافها وصناعتها وتطويرها . وروي عن الإمام الحسن عليه السلام : الإعطاء قبل السؤال من أكبر السؤدد (7) حين يطلب منك الناس أن تعلمهم وتفعل ذلك فهذا سؤدد , لكن حين تفتح لهم ـ دون طلب ـ طريقا يحببهم في طلب العلم وتبذل من علمك ليترقوا بالمعرفة فهذا من أكبر السؤدد . كما ورد في الرواية ( سيد القوم خادمهم ) (8) التي نقرؤها غالباً في سقف محدود ونحصرها في الخدمات الجزئية لكنها في الحقيقة مطلقه . السيادة تستلزم الخدمة لكنها لا تنحصر في أن تعلم جاهلا أو تقضي حاجه ملهوف أو أن تتبرع بمال … السيد يقدم خدمات تتناسب ومقام السيادة ، وشأن السيادة تقديم الخدمات الكبار . يقول تعالى : ( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ) الأحزاب: 39 ، السيادة التي هي نواة القيادة تعني تقديم مصالح الأمة والإنسانية على الدعة والراحة وتقديم المصالح الواقعية على الأمان الشخصي ، فالذي يبلغ رسالات الله عندما يريد أن يكون سيداً وخادماً للناس فهو يتحرك لنزع الدنيا من أيدي الجبابرة ويقدم في سبيل ذلك كل ما لديه حتى لو خاطر بنفسه لأن السيادة هي أن تنصب نفسك خادماً للمصالح الكبار. السيد الواقعي في أجلى صورة يبينه أمير المؤمنين عليه السلام بقوله : ( ما ساد من احتاج إخوانه إلى غيره ) (9) السيد الواقعي هو من امتلك مؤهلات السيادة التي تجعل الجميع وبشكل طبيعي يرجعون إليه , هو من يقصده الآخرون تلقائياً من غير أن يعطيهم أحد عنوانه .. لأن تعاطيه بذاته أمان للآخرين ولأنه يقضي لهم كل حوائجهم . والمصداق الأبرز لذلك هو الإمام الحسين عليه السلام ، فهو الذي تحتاجه البشرية لنيل مآربها ، وتحتاجه الأنبياء لتتقرب لله بالبكاء عليه فهو سيد السادة وقائد القادة . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــ 1- ذهب البعض إلى أهمية التزكية على التعليم بسبب تكرر تقديم التزكية على التعليم في القرآن . 2- مستدرك الوسائل 10 223 21- باب استحباب زيارة أمير المؤمنين 3- بحار الأنوار ج27 ص162 باب 6- ما ينفع حبهم فيه من المواطن 4- لهذا كان هناك فرق بين القيادة في المفهوم الإلهي عنها في المفهوم المادي , فالقيادة في المفهوم الإلهي تعتمد على السيادة وهي ما ذكرنا من كمال ذاتي تكون أرضية للقيادة , بينما في المفهوم المادي فالقيادة هي مجموعة من إمكانيات ومؤهلات خارجية كالخطابة والبيان والإقناع وغيرها مما يعدونه من سمات القيادة والحال أنها قشور . 5- غرر الحكم ص 341 ف 2 ح 7794 6- بحار الأنوار ج 78 ص 258 ح 142 7- أعيان الشيعة ج 4 ص 88 8- من لا يحضره الفقيه ج4 ص378 9- عيون الحكم والمواعظ |
#7
|
|||
|
|||
![]() وجعلته سيدا من السادة وقائدا من القادة ( 5) قائد القادة أين هو اليوم؟ ورد في زيارة الأربعين للإمام الحسين عليه السلام : " اَللّـهُمَّ إنّي أشْهَدُ اَنَّهُ وَلِيُّكَ وَابْنُ وَلِيِّكَ وَصَفِيُّكَ وَابْنُ صَفِيِّكَ الْفائِزُ بِكَرامَتِكَ، أكْرَمْتَهُ بِالشَّهادَةِ وَحَبَوْتَهُ بِالسَّعادَةِ، وَاَجْتَبَيْتَهُ بِطيبِ الْوِلادَةِ، وَجَعَلْتَهُ سَيِّداً مِنَ السادَةِ، وَقائِداً مِنَ الْقادَةِ، وَذائِداً من الذادة..." بعد أن تحدثنا عن مفهوم السيادة وأسلفنا أنها خصائص وشمائل واقعية ترفد القيادة وتعطي المؤهل والأحقية للتصدي للشأن القيادي العام ننتقل للبحث حول المفهوم الثالث في نص الزيارة وهو ( القيادة ) . القيادة لغة : القيادة تقابل الذيادة . فالذيادة هي السوْق من الخلف والطرد والإبعاد عن شيء أو محلّ , أما القيادة فهي نقيض السوْق , يقال : يقود الدابة من أمامها و يسوقها من خلفها. وقاد البعير: جرّه خلفه. في الحديث" الْمُجْتَهِدُونَ - يعني في القرآن - قُوَّادُ أَهْلِ الْجَنَّةَ " (1) أي يسبقونهم للجنة و يجرّون غيرهم إليها . وفي حديث السقيفة: " فانطلق عمر و أبو بكر يتقاودان " (2) أي ذاهبين مسرعين كأن كل واحد منهما يقود الآخر بسرعته. والملاحظ أن السوق من الأمام عنصر مأخوذ في القيادة , ولذا فهي لا تتحقق إلا بافتراض مقود ومُساق . ونحن لا نختلف مع سائر المسلمين حول إثبات صفة السيادة لأهل البيت عليهم السلام , ولكن الصفة التي يبدأ الانشقاق والاختلاف والتفرق حولها بحيث تكون فصلا مقوّما للمذهب الشيعي الاثني عشري هي مسألة القيادة. ورد عن كلا الفريقين " الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة " (3) وهذا يثبت سيادة الحسنين عليهما السلام عند كل المسلمين. ويرى الشهيد مطهري أن المسلمين لو التزموا بهذه الرواية لألزموا أنفسهم بعقائد كثيرة ، بمعنى لو أننا وقفنا على هذه الرواية فحسب فإننا سوف نثبت كل المقامات التي ندعيها للإمامين الحسن والحسين ، فكونهما سيّدي شباب أهل الجنة يعني أنهما سيدان في كل المراحل السابقة للجنة , فالإنسان يمر بمراحل الوجود من قارعة وحاقة وواقعة بما فيها هذا العالم حتى يصل إلى الجنّة التي هي عين الحقيقة. فالنبيّ بهذا لا يثبت للحسنين عليهما السلام سيادة استعدادية تحتاج لعمر من السير والسلوك في سلّم الفضائل , بل يعطيهما سيادة تكوينية تنطوي على السيادة التشريعية والاستعدادية – كما سبق وأسلفنا – (4). إذن ليس الخلاف بين المدرسة الاثني عشرية وسائر المسلمين في سيادة الإمام لأن الرواية جاءت عن لسان النبي والإمام الحسين لم يتجاوز الست سنوات , إنما يبدأ الاختلاف من مسالة إثبات القيادة له عليه السلام . فمن المسلمات عندنا – نحن الشيعة - ان الإمام الحسين من الأئمة الاثني عشر الذين نصبهم الله سبحانه وتعالى لقيادة الأمة , واعتبر هذه نعمة عظمى على هذه الأمة , ولكنهم ﴿بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَار﴾ (سورة إبراهيم:28) . واعتقادنا بالقيادة هو الفصل المقوم (5) الذي نفترق فيه عن سائر المسلمين ليس على مستوى علم الكلام والعقائد فحسب وإنما في السياسة و الإدارة وفي الشأن العام وفي قضايا الحياة . فهم يعتقدون بالانفصال بين الشؤون العلمية والقضائية والعبادية والأخلاقية وبين الشأن السياسي , وهم بعبارة موجزة يفصلون الدين عن السياسة. (6) لقد امتاز المذهب الاثنا عشري في تأمين وضعه السياسي والاجتماعي بهذا المقوم ( القيادة ) وبقي في حالة من الضعف والضمور في المراحل التي فقد المجتمع الشيعي إحياء هذا المقوم وتثبيته . ما هي القيادة ؟ سنتكلم عن القيادة بما يتناسب والبحث , وسيدور الكلام حول الدرجة الأولى من درجات القيادة وهي : القيادة السياسية والاجتماعية وسوق الناس لمصالحهم الواقعية . هذه أدنى درجات القيادة بالنسبة إلى المعصوم . وإذا كانت السيادة هي خصائص باطنية فإن القيادة هي فعلية السيادة والسلوك السيادي . ولا يخفى أنه مأخوذ في القيادة التأثير على الآخرين , لذلك قلنا في بداية السلسلة أن من أهداف البحث تحديد المسافة بيننا و بين الامام الحسين (ع) . القيادة هي المفصل و المقوّم لمدرسة أهل البيت (ع) عن بقية المدارس التي تفكك بين الدين و السياسة , وإذا فكننا بين السياسة و بقية المنظومة الدينية فسوف يُحدّ كل شيء , وسوف تصبح كل الروايات الأخلاقية والتي تتحدث عن الفضائل والشمائل كالسؤدد والحلم والبذل في دائرة ضيقة و محدودة. إن تفريغ الإسلام من قيادة أهل البيت يحوله إلى دين غير جاد , أشبه بحبر على ورق وصرف وصايا أخلاقية و مواعظ . بينما لو أدخلنا العنصر السياسي في كل هذه المنظومة فسوف تتحول إلى نظام تشريعي تنفيذي تطبيقي فتكون جادة، وتصبح ذات خطابات واقعية , فالقيادة تعني أن الله وضع منفّذاً وقائدا وسائقا لهذه القيم والأخلاقيات . ولوضوح موقعية الإمام الحسين (ع) في تنفيذ كل الأحكام الشرعية, لاحظوا خطبة الإمام الحسين عليه السلام لأصحابه في ليلة العاشر تجدونها خطبة مليئة بالنفس القيادي و الريادي و بالروح الثورية القيادية فقد خطب خطبة طويلة قال فيها : " وَ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ قَدْ لَزِمُوا طَاعَةَ الشَّيْطَانِ وَ تَوَلَّوْا عَنْ طَاعَةِ الرَّحْمَنِ وَ أَظْهَرُوا الْفَسَادَ وَ عَطَّلُوا الْحُدُودَ وَ اسْتَأْثَرُوا بِالْفَيْءِ وَ أَحَلُّوا حَرَامَ اللَّهِ وَ حَرَّمُوا حَلَالَهُ، وَ إِنِّي أَحَقُّ مَن غيَّر " (7) أي أن موقعي و دوري وخصائصي مؤهلاتي تجعلني الأحق بهذا التغيير . هل مقام القيادة مختص بالمعصوم ؟ هناك سؤال يتولد في داخل المدرسة الشيعية مفاده : هل أن منصب القيادة مقتصر على المعصومين صلوات الله عليهم , أم أنه لهم عليهم السلام بالأصالة وبالذات ولغيرهم بأدلة أخرى ؟ وبعبارة أخرى : هل أن هذا المقام مجعول لأهل البيت (ع) كما جُعلت لهم الإمامة جعلاً خاصاً أم أن هذا المقام مثله مثل الشهادة والواسطية ؟ الجواب : إذا حلّلنا منشأ هذا الجعل الإلهي لهم عليهم السلام سنعرف سعة دائرة هذا الموقع وهذا المقام , ومنشأ هذا الحق. و هناك بيانات كثيرة جداً لإيضاح ذلك ولكن سأكتفي بأكثرها بداهة ووضوحا . يوجد عدة نظريات لكن أستطيع أن أقول : نحن الشيعة لدينا شبه إجماع على أن هذا المنصب ليس منصباً خاصاً , فهو للأئمة عليهم السلام على نحو الكمال ولكن نختلف في مدى تطبيق امتداد هذه القيادة في زمن الغيبة , ومن هنا اختلفت الآراء . النظرية الأولى : نظرية ولاية الفقيه . وهي النظرية التي نتبناها وسنقيم عليها الأدلة , ثم نعرض بقية الآراء . لكن قبل ذلك لا بد أن نلتفت إلى نقطتين : 1- أن الأئمة عليهم السلام ما حوربوا وقتلوا و سمّوا بسبب سيادتهم بل بسبب القيادة , فكل الناس تعتقد بسيادتهم وتعرف أنهم أكمل البشر , ولكنهم لا يتبعونهم كقادة . 2- إذا قلنا أن السياسة داخلة في جميع الأحكام الاسلامية , فهل يعقل أن دينا هو آخر الأديان و شريعة تدّعي الشمولية , و أنها نازلة لكل البشر و أنها رحمة للعالمين , ثم لا يمارس فيها منصب القيادة خلال 25 سنة هي مجموع قيادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين و الحسنين عليهم السلام , ويجمّد هذا المنصب إلى أن يأتي الحجة عجل الله فرجه الشريف ليمارسه من جديد؟ خصوصا مع قولنا بأن هذا المنصب هو الفصل المقوم للمذهب ! بعد هاتين الملاحظتين سنستعرض أدلة نظرية ولاية الفقيه في بحث كلامي عقلي ونقلي وبأدلة بديهية سهلة بعيدة عن الصناعية والتخصص . ولا يوجد فقيه لا يقول بولاية الفقيه ، وإن كان ثمة اختلاف فهو في سعتها وضيقها وفاعليتها. (8) إنّ معرفة نظرية ولاية الفقيه سوف تحل لنا كثير من المفردات التي نستخدمها اجتماعيًا وسياسيًا , وسأشير إلى بعض منها بقدر ما يسمح المجال . الدليل الأول على نظرية ولاية الفقية : إحراز القدر المتيقّن إنّ منشأ حق القيادة في زمن الغيبة هو توحيد الربوبية فلا ربوبية لأحد على أحد ولا التزام لأحد مقابل قانون ولا حكم إلا لله, وقد اختار الله سبحانه قادة معصومين لملكات ذاتية فيهم . والدليل على ولايتهم وقيادتهم هو نفسه يجري دليلا على مشروعية قيادةٍ من سنخ قيادتهم في زمن الغيبة بالقدر المتاح وهذا ما نسميه بدليل قاعدة إحراز القدر المتيقن . هذا الدليل يستند إلى قاعدة عقلائية . هذه القاعدة تقول: إن إحراز القدر المتيقن أولى من الترك في الوصول للمطلوب , وهي قاعدة نلتزم بها في كل أعمالنا اليومية , فعندما يطلب الإنسان أمرا ما ثم لا يمكنه الحصول عليه في أعلى درجاته فهو لا يتركه تماما بل يحاول الحصول عليه وفق الظروف المتاحة . مثلا , حين يمرض الإنسان ويحتاج إلى طبيب حاذق ، ولا يجده ولكنه يجد أطباء آخرين أقل كفاءة , فالعقل يأمره بالذهاب للأطباء الموجودين , لا أن يترك العلاج بسبب عدم وجود الطبيب الحاذق . هذا معنى قاعدة الوقوف على القدر المتيقن وهي قاعدة عامة يتعاطى بها العقلاء , فإذا لم نستطع تحصيل المائة في مطلوبنا نرضى بالتسعين ثم يتضاءل العدد حتى نصل إلى الصفر . هذه القاعدة تجري في الفقه أيضا . فلو أوقف الإنسان مالا لينفَق في مورد معين فلم يتيسر لتحقيق هذا المصرف فالعقل يقتضي أن ننزل إلى مورد قريب من المقصود للواقع . لا أن نترك أصل المسألة . قد لا نعمل بهذه القاعدة في الأمور غير المهمة , لكن إذا كان الأمر من الأهمية بحيث أن الشرع لا يرضى بتركه كقيادة الأمة فإن مقتضى العقل يقول : بما أن المعصوم المجعول للقيادة من قبل الله جعلا تكوينيا غائب عن ممارسة القيادة فعلينا أن نبحث عن من هو أرضى للشارع من حيث الخصائص والصفات ونسلمه القيادة . لأننا نطمئن أن الشارع لا يرضى بتعطيل الأحكام ولا بتجميد السياسة ولا بأن يستولي علينا الكافرون ﴿ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ﴾ (سورة النساء:141) شروط القيادة والعقل يشترط في من يستلم مقام القيادة عن المعصوم ثلاث خصوصيات : الشرط الأول/ الاجتهاد : أي أن يتصدى للقيادة المجتهد الأعلم في الشريعة . لأنه يشغل منصب القيادة نيابة عن الإمام المعصوم الذي يملك أعلى مرتبة من العلم بالقانون والتقوى الاخلاقية والتدبير , والمتصدي في موقع المعصوم يجب أن يكون هو الأقرب من فهم الشريعة . فمن ليس عنده ملكة الاجتهاد مهما كان ذكيا وذا إحاطة بالنصوص الشرعية فهو لن يفهم الواقع الخارجي ولن يستطيع أن يتعاطى مع الأمور والأحداث المستجدة بردّها إلى الأصول والمباني الدينية لمعرفة وجهة نظر الدين فيها , ومن لم يتقن هذه المهارة فهو قد يقع في الخطأ مهما حسنت نيته . الشرط الثاني / العدالة : وهي الصلاح الأخلاقي . يقول تعالى : ﴿ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾ ( سورة آل عمران:102) التقوى بشكلها المطلق متوفرة في المعصوم لكن في الولي الفقيه يُبحث عن الأقرب فالأقرب إلى التقوى . والتقوى خاصية لها علاقة بالسيادة , وهي – كما ذكرنا - حصر النفس وضبطها فالقائد بالإضافة إلى كونه الأعلم يجب أن يكون الأكثر زهداً . ويجب أن لا يغلبه خوفه أو جشعة أو حفاظه على منصبه على اتخاذ الموقف الذي يطابق الواقع . الشرط الثالث / المهارة الإدارية : وهذه السمة تتفرع عنها مزايا كثيرة : منها الإدارة الجيدة , الصلابة والحزم , الحلم , الشجاعة , التغافل عن بعض ما لا يصح تضخيمه , والتشدد في ما ينبغي التشدد فيه .. وغيرها كثير . وهي باختصار القدرة على إدارة الناس , وهو شرط موجود في الولاية وليس موجودا في مسألة المرجعية . يتبع |
#8
|
|||
|
|||
![]()
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــ
1 – الكافي- الشيخ الكليني-ج2-ص606 2 - مجمع البحرين- الشيخ فخر الدين الطريحي- ج 3 – ص133 3 - من لا يحضره الفقيه-الشيخ الصدوق-ج4-ص179 4 - راجع الدرس الأول 5 – الفصل المقوِّم : عبارة عن جزء داخل في الماهية , كالناطق مثلا فإنه داخل في ماهية الإنسان , ومقوّم لها , إذ لا وجود للإنسان في الخارج والذهن بدونه . 6 - العلمانية ولدت يوم السقيفة عندما كان يُعتقد أن (أعلمكم علي ) و ( أقضاكم علي) و ( أفضلكم علي) لكنه يُنحى عن القيادة والتصدي للشأن العام ويقتنع المسلمون بذلك ! من هنا حدث الشقّ الواقعي بين المسلمين والمذهب الأثني عشري 7 - بحار الأنوار – العلامة المجلسي - ج44- ص382 8- والحقيقة أن اختلاف العلماء في مسالة ولاية الفقيه ليس عميقا ولا يؤثر على النتيجة المطلوبة وهي حاكمية الفقيه. فلايوجد فقيه ينكر الولاية للفقيه بشكل مطلق. يقول الشيخ جعفر السبحاني في كتاب معالم الحكومة الاسلامية( ان القول بولاية الفقيه اتفق على اصلها في الجمله جميع الفقهاء في فقه الامامية) ويقول اية الله جوادي الاملي في كتاب ولاية فقيه ولاية فقاهت وعدالت( ليس عندنا فقيه ينكر الولايه للفقيه بشكل مطلق). بل حتى الذي يقول بالولايه الحسبية يثبت الولاية للفقيه في مجال الحكومة وإدارة البلاد، يقول آية الله الشيخ جواد التبريزي في كتاب (صراط النجاة) والذي نقول به هو أن الولاية على الأمور الحسبية بنطاقها الواسع، وهي كل ما علم أن الشارع يطلبه ولم يعين له مكلفا خاصا. ومنها بل أهمها ادارة نظام البلاد وتهيئة المعدات والاستعدادات للدفاع عنها فإنها ثابتة للفقيه الجامع للشرائط. وهناك اشتباه شائع بين المؤمنين والطلبة هو أن من يقول بالولاية الحسبية يرفض حاكمية الفقيه، يقول السيد كاظم الحائري في كتاب (المرجعية والقيادة) فلئن كانت الشريعة لا ترضى بإهمال أمور المساجد والأيتام والسفهاء . . . فكيف ترضى باهمال أمور الدولة وشؤونها؟). يقول الشيخ النائيني في كتاب (تنبيه الأمة وتنزيه الملة) إذ أن الشارع المقدس لا يرضى باختلال النظام وذهاب بيضة الإسلام، ومن جهة أخرى نجد أن اهتمام الشارع بحفظ البلدان الإسلامية وتنظيمها أكثر من اهتمامه بسائر الأمور الحسبية، ومن هنا يثبت لدينا بما لا شك فيه نيابة الفقهاء والنواب العمومين في عصرالغيبة في ما يتعلق باقامة الوظائف المذكورة). ويقول الشيخ النائيني في نفس الكتاب( بما ان القيام بادارة أمور الأمة وشؤونها هي من الوظائف الحسبية وتدخل في باب الولاية اذن فالقيام بها من وظائف النواب العامين والمجتهدين العدول). |
#9
|
|||
|
|||
![]() وجعلته سيدا من السادة (6) السيرة العقلائية وتعيين القائد تحدثنا عن الدليل الأول لإثبات نظرية ولاية الفقيه وهو ما أسميناه بقاعدة القدر المتيقن وقدمناه لوضوحه وبداهته ، وهو كما يجري في الولاية المطلقة للفقيه يجري في سائر التصرفات الأخرى التي ينوب فيها الفقيه عن الإمام المعصوم . وسيكون حديثنا اليوم تفصيلا لهذا الدليل البديهي . ونظرا للزوبعة الكبيرة التي أثيرت مؤخراً حول قضية الخمس ودليل وجوبه فسيكون المنطلق من خلال هذه المسألة وفق مقدمتين: الأولى: هل أن أخذ أمر الأئمة بتسليم الخمس من شيعتهم لهم أو لوكلائهم كان أمراً جادّاً أو هو من باب التقية , التي يفقد فيها الخطاب بالأمر لعمل معين عنصر الإرادة الحقيقية للفعل . بلا شك ليس هناك من يقول أنهم عليهم السلام أخذوا الخمس تقية. فالعقل يدرك جدّية الشارع المقدّس في تشريع الأحكام ويدرك أيضا إطلاق تلك الأحكام ويجزم بضرورة استمرار العمل بها حتى في حال عدم وجود المعصوم . الثانية : لم ترد هناك تقييدات في أوامر المعصوم وسلوكه في قبض الخمس تفيد أنه لزمان معين , وعدم ورود التقييد في الأحكام يفيدنا إطلاق هذه الوظيفة وعموميتها . بناء على هاتين المقدمتين نقول: أن العقل يقضي بأن الشارع سيد العقلاء وهو جادّ في هذا الأمر ، ونفس العقل يقول أيضا أن هذا الحكم مطلق بمقدّمات الحكمة وعدم وجود التقييد , ثم يرشدنا إلى كيفية تطبيق هذا الحكم وفق قاعدة القدر المتيقن , فيجب أن ننتخب الشخص الذي نعتقد أنه الأعلم بموارد الصرف التي يريدها الإمام المعصوم . إذن , ذات الارتكاز العقلائي يجعل أي إنسان يؤمن بهذه المنظومة العقائدية (1) يختار بعقله المرجع الأفقه والأعدل والأعرف بموارد الصرف , ينتخبه ويسلمه أمواله دون شك أو ريب , أعتقد أن من أدق ما ورد هنا هو رأي السيد الخوئي في كتاب الخمس إذ لا يرى وجوب تسليم الخمس إلى المرجع الذي يقلده الإنسان , وفي نظره أنه يجب أن يعطيها للأعرف والأعلم بموارد الصرف. إذن الإنسان يختار من يقلد بناء على رأيه، ويختار من يعطيه الخمس , وله رأي في مورد الولاية وتعيين الولي الفقيه. فرأي الإنسان له وزن واعتبار في الشرع وهو ليس مُقصىً ولا مبعدا . وهذا يعتمد على ارتكاز عقلائي يقضي بأن العقل نفسه يدل الإنسان على الرجوع في زمن الغيبة إلى من هو أعلم وأعرف منه، هذا مقتضى العقل والإدراك، وإذا جاء نص ديني على ذلك فإنه لا يعتبر دليلا وإنما يعتبر مؤكدا على حكم العقل، ومرشدا إلى هذا الارتكاز العقلائي. إذن فالتشكيك في مسألة الخمس هو ما يحتاج إلى دليل، وما هذه الإثارات حول مسألة الخمس إلا مرض في القلوب. بعد بيان وجوب تحصيل القدر المتيقن من أجل إمضاء حكم كوجوب الخمس نقول: أن ذات القاعدة تجري في تعيين الولي الفقيه في زمن الغيبة , فكما ينتخب الناس المرجع بالطرق العقلائية والرجوع لأهل الخبرة ويسلمون له الخمس لأنهم يستأمنونه على الحقوق الشرعية في غيبة المعصوم , فهم أيضا ينتخبون من يسلمونه زمام القيادة نيابة عن المعصوم عليه السلام. كيف يشخّص الناس القائد ؟ بعد إثبات أن العقل يقضي بالعمل وفق قاعدة القدر المتيقن في تحديد القيادة في زمن الغيبة يتبادر سؤال عريض مفاده: كيف يمكن لعامة الناس تشخيص خصائص الأجدر بالقيادة (2) والأعلم والأفقه والأكفأ في التدبير والإدارة والأكثر تقوى وعدالة روحية ؟ لقد قلنا أن أهم صفات القيادة: أولا: العلم والمعرفة التفصيلية بالأحكام الشرعية وردّ المستجدات إلى الأصول . الشرط الثاني: التقوى، وهي من أهم الشروط، لأن القيادة بلا مواصفات باطنية هي مورد لإيقاع الناس في المفسدة، أمير المؤمنين عليه السلام وهو يقيم الشاهد على عدم صلاحية الثلاثة المتقدمين الذين كانوا قبله، لم يأت بآية ولا رواية في انحصار القيادة، بل تكلم عن عدم صلاحيتهم في الجانب الأخلاقي قال: "إِلى أَنْ قَامَ ثَالِثُ القَوْمِ، نَافِجًا حِضْنَيْهِ بَيْنَ نَثِيلهِ وَمُعْتَلَفِهِ" (3) فديدنه جمع الأموال وصرفها والاستئثار بالفيء . هذه سلوكيات تخالف القيادة, فالقيادة يجب أن تكون مأمونة وليس العلم هو ما يحقق الأمان من التحزب والفئوية والخطيّة، المؤمّن هو الخوف من الله وخشيته سبحانه. هذه الصفات هي التي تحقق السيادة والصيرورة الباطنية، وهو ما أسميناه بالجعل، الذي هو في المعصومين تكوينا وفي المراجع على نحو التشريع . الشرط الثالث: الكفاءة في الإدارة، -وبها تكتمل شروط القيادة- وهي القدرة على تشخيص الواقع الخارجي والتعاطي معه وفق ما تقتضيه مصلحة الأمة . من تقديم الأهم على المهم وتشخيص كبريات الأمور بحيث يعرف القائد متى يقدم ومتى يحجم , متى يعلي سقف الخطاب ومن يخفضه , متى يواجه ومتى لا تكون المواجهة من المصلحة . ولا يراعي في ذلك أي مصلحة فئوية . هذه الشروط الثلاثة يدركها العقل , والعقل أيضا يقرر الطريق لإحرازها . فهو يقول أنه إذا لم يتمكن من تحقيق المصلحة 100% فيجب أن يسلك الطريق الأقل ضررا , وفارق بين كمال المصلحة والبحث عن الطريق الأقل ضررا . لاحظوا الفرق بين تشخيص المصلحة والمفسدة، يقول أمير المؤمنين عليه السلام: (ليس العاقل من يعرف الخير من الشر ولكن العاقل من يعرف أهون الشرين) وفي كلام للإمام الصادق ما يحكي نفس المضمون ويضيف أن معرفة الخير من الشر ليس هو العقل لأن البهيمة تشترك مع الإنسان في معرفة ذلك وتتقي ما يسبب لها الهلاك. الشاهد أنه بعد ما أقدمت عليه الأمة من إقصاء الأمير وقتل الزهراء وسم الإمام الحسن والحرمان من هذه النعمة العظمى لم يبق لها في زمن الغيبة إلا اللجوء للأجدر بإدارة الأمة . وهذا ارتكاز عقلائي كما قلنا لا يستدعي الرجوع إلى النصوص الدينية . لكن السؤال: ما هو الطريق العقلائي للتعرف على من يتمتع بصفات القيادة والإنابة عن المعصوم ؟ الكثيرون يعتقدون أن هذا يحصل بالانتخاب العام ، فمن أحرز الآراء الأكثر فهو أصلح . لكن هنا هذا الطريق غير سليم لسببين : 1. أنّ الانتخابات في أكثر البلدان حرية هي معرض للبيع والشراء ، وللإعلام دور كبير في الترويج لأي مرشّح مما يؤدي إلى فوضى فكرية , فضلا عن كون الإعلام قوة تحتاج إلى المال. ومن شروط القائد أنه (لا يُضَارِعَ ، وَلا يُصَانِعُ ، وَلا يَتَّبِعُ الْمَطَامِعَ) . ثم إن طريق الانتخابات قائم على الديمقراطية الرأسمالية التي يكون القوي فيها وصاحب التأثير هو صحاب الأموال .. هذا الطريق لا يمكن اعتماده في تعيين القائد. 2. أن الناس غير متساويين في تعيين الشخص الذي تتوفر فيه صفات القيادة , مع النظر إلى تأثر عامة الناس بالرضا والغضب , فيمكن أن تكره الناس شخصا أو تحبه من أجل موقف! 3. إن القدرة العلمية والإدارية والعدالة الأخلاقية لا يمكن لسائر الناس تشخيصها، فتحديد المستوى العلمي يحتاج لمختصين , كما أن تشخيص الطبيب الحاذق يقوم به مجموعة أطباء , وكذلك معرفة الخصائص الباطنية تحتاج إلى صاحب وجدان خاص وإدراك دقيق. إذن فالانتخابات ليست ميزانا دقيقا لانتخاب القائد , وكلها لا تعدو أراء ظنية سطحية ، ليست مبنية على علم . أهل الخبرة هم من يحدد الولي الفقيه بعد أن عرضنا أسباب عدم صلاحية الانتخابات العامة لتحديد الولي الفقيه نستعرض الطريقة المثلى , وهي طريقة عقلائية بديهية تتمثل في الرجوع إلى الخبراء . هذا الطريق يعطي صلاحية نسبية واطمئنانا نسبيا للانتخاب، لأن هؤلاء الخبراء عدول , ولديهم قدرة علمية لتشخيص الأعلم، ويمتلكون حكمة في تشخيص مصلحة الأمة ورغبة واقعية في تحقيق هذه المصلحة . لكن لا تنتهي السلسلة هنا , إذ يواجهنا سؤال آخر : من ينتخب هؤلاء الخبراء؟ الحقيقة أن الناس هم من يعين هؤلاء الخبراء, وقد تشكّل مجلس الخبراء في الجمهورية الإسلامية من خلال انتخاب أهل كل منطقة من يثقون به ومن يرونه الأصلح والأجدر . وهذا الأسلوب في الانتخاب تؤيده سيرة العقلاء ومذاق الفقهاء , فالقاضي المنصوب للقضاء يذهب لمنطقة ما لفصل الخصومة , وأكثر ما يستند إليه هو البينة ، أي شهادة العدول , لكنه لا يمكن أن يستند إلى شهادة من لا يعرف , وطريقه للتعرف على الشهود هو من خلال عامة الناس . الرجوع إلى الناس في مرحلة من المراحل هو الطريقة الطبيعية ، وعين هذا الأمر الطبيعي العقلائي هو أساس انتخاب الخبراء . فالناس تنتخب العدول الذين تثق بهم ثم هؤلاء العدول ينتخبون بخبرتهم الولي الفقيه . بالنتيجة فإن للناس دخالة مباشرة في تعيين الولي الفقيه من خلال انتخاب الخبراء الذين يشكلون المجلس الذي ينتخبه ويراقب مسيرته . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــ (1) عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه قال: كنت عند أبي جعفر الثاني عليه السلام ــ أي الإمام الجواد عليه السلام ــ إذ دخل عليه صالح بن محمد بن سهل وكان يتولى الوقف بقم فقال: يا سيدي اجعلني من عشرة آلاف درهم في حلٍّ فإني قد أنفقتها، فقال له: أنت في حل، فلما خرج صالح، قال أبو جعفر عليه لسلام: أحدهم يثب على أموال (حق) آل محمد وأيتامهم ومساكينهم وأبناء سبيلهم فيأخذه ثم يجيء فيقول أجعلني في حل، أتراه ظن أني أقول لا أفعل والله ليسألنهم الله يوم القيامة عن ذلك سؤالاً حثيثاً. [الكافي ج1ص 352] (2) إشارة لخصائص القائد التي مرت في الدرس الخامس وهي : الاجتهاد – العدالة – الإدارة (3) الخطبة الشقشقية – نهج البلاغة |
#10
|
|||
|
|||
![]() وجعلته سيدا من السادة – 7 حكم الله يتجلى في زمن الغيبة بولاية الفقيه أقمنا فيما سبق الدليل على أن القيادة ضرورة عقلية و شرعية في زمن الغيبة كما في زمان حضور المعصوم صلوات الله وسلامه عليه. ولا يمكن أن نتصور أن الشارع الذي يهتم بتفاصيل حياة الإنسان ويعيّن له أموره الجزئية جداً كالطهارة وأسبابها ونواقضها أن لا يهتم بقضية مهمة ورئيسية يتوقف عليها حفظ مصالحه الدنيوية والأخروية. إن تصور أن لا يكون هناك نظرية واضحة للحكومة الإسلامية هو اتهام للإسلام , هذا الدين الذي يدعي الصلاحية لإدارة الدنيا والآخرة . بل إن تصوّر أن لا تكون نظرية القيادة في الإسلام بديهية واعتبارها مسألة غامضة تحتاج لإقامة أدلة تخصصية ولا يفهمها إلا الأوحدي من الأمة هو اتهام يضعف الدين , لأنها ضرورة من الضروريات العقلية والاجتماعية التي لا يختلف عليها اثنان ، ولا يقابلها إلا نظرية واحدة سنستعرضها ونرد عليها. النظرية التي تقابل نظرية ضرورة القيادة هي نظرية المدينة الفاضلة , وهي تقول أننا إذا ربينا الناس على مستوى الأخلاق الراقية فسوف يعرف كل منهم حقه وحق الآخر , ونصيبه ونصيب الآخر ، ودوره ودور الآخر ، وبذلك تعيش الإنسانية مدينة فاضلة لا حاجة فيها إلى حاكم ومحكوم بسبب وصول الناس فيها إلى حدّ من العدالة والفضيلة ، بحيث لا يحتاجون إلى وجود مؤسسات تشريعية ولا تنفيذية ولا قانونية. والخلل في هذه النظرية يتمثل في أنها علاوة على كونها خيالا ووهما فهي تفتقر إلى تحديد معايير العدل الظلم، فلا يوجد من يحدد ذلك، وهو ما يمكن أن يكون منشأً للخلاف. وبهذا يمكن القول بأنه لا توجد نظرية معقولة على الصعيد الإنساني في جميع الفلسفات البشرية لا تقول بضرورة وجود قائد حاكم مدبر يجب الرجوع إليه. فضلا عن اعتبارنا – نحن الشيعة - مسألة القيادة والولاية نقطة أساسية نمتاز بها عن بقية المدارس الإسلامية. الدليل الثاني على مسألة ولاية الفقيه - مسألة القيادة والولاية نقطة أساسية نمتاز بها عن بقية المدارس الإسلامية . الدليل الثاني على مسألة ولاية الفقيه : تقدّم الدليل الأول في إثبات نظرية ولاية الفقيه , والذي كان بديهيا وواضحا , واليوم سنعرض الدليل الثاني الذي يستمد قوته ليس من جهة البداهة والوضوح بل من جهة علوّ مكانته , وقيمته العقائدية ومرتبته الكلامية , فمنشأ هذا الدليل كلامي ينطلق من الإلهيات . مفاد هذا الدليل هو أن ولاية الفقيه مسألة عقائدية لا فقهية . ولبيان ذلك لا بد من التفريق بين المسائل الفقهية والكلامية : تنقسم العلوم إلى علوم ترتبط بأفعال الإنسان: ما يجب أن يفعله وما يجب أن يتركه وما هو مباح له ... إلخ . وهذا ما نسميه بعلم الفقه . وهناك علم آخر يرتبط بأفعال الله سبحانه وهو علم الكلام أو ما يطلق عليه الإلهيات والحكمة في مراتبه العالية . وهو يبحث في وحدانية الله سبحانه وتعالى وأفعاله وأسمائه وصفاته الجمالية والجلالية . في المسألة الفقهية يرجع كل مكلّف إلى المجتهد الذي يقلده في الأمور الفقهية , لكن في المسائل العقائدية لا يوجد عندنا تقليد, فالإنسان يجب أن يبحث بنفسه عن أدلتها, وتكون قيمتها في مدى اقتناعه وإيمانه بها . ومن لا يمتلك هذه القيمة العلمية في العقائد فهناك نقص في عقائده ويحتاج إلى تصحيحها . إذا نقحنا الأصول الكلامية لدينا فستتولد مدرسة كلامية تشمل جميع العقائد التي نؤمن بها , ومن ضمنها مسألة القيادة والحكومة . لذا من الأخطاء التي وقع فيها البعض أنه اعتبر ولاية الفقيه مسألة شرعية فرعية وليست مسألة عقائدية كلامية . والحال أن من يقف على كلمات الفقهاء يدرك أنها مسألة عقائدية ، فهي امتداد للإمامة . يقول الشهيد الصدر في كتاب الإسلام يقود الحياة ( وقد امتدت الإمامة بعد عصر الغيبة في المرجعية كما كانت الإمامة بدورها امتدادا للنبوة ) فالسيد الشهيد يعتبر الولاية خطا ممتدا, وكل دليل يجري في مسألة النبوة والإمامة يجري أيضا في مسألة الولاية , فهل يوجد من يقلد فقيها في مسألة النبوة والإمامة ؟!! ولاية الفقيه فعل الله سبحانه يقول الإمام الخميني ( ولاية الفقيه ليست أمرا أوجده مجلس الخبراء إن الله تعالى هو الذي أوجد ولاية الفقيه وهي نفس ولاية رسول الله صلى الله عليه وآله ) ومن خلال كلام الإمام يفهم أن ولاية الفقيه هي فعل الله , أي إن الله هو الذي يبعث النبي أو يعين الإمام إما بشكل مباشر أو غير مباشر . فالإمام المعصوم عندما يعين الفقيه وليا في زمن الغيبة فإن ولايته تكون من قبل الله. ويقول آية الله السيد كاظم الحائري في كتاب الإمامة وقيادة المجتمع: ( إن فكرة الإمامة بما تشتمل عليها من قيادة المجتمع وبما لها من الامتداد في خط ولاية الفقيه لهي فكرة حية حركية واسعة النطاق عميقة الغور وهي تشكل من ناحية مبدأ عقائديا مذهبيا للشيعة يكون حدا فاصلا لتمييز الشيعي من غيره ، وتعبّر من ناحية أخرى عن شكل الحكم لدى الشيعة . ولهذا أصبح بحث الإمامة وبهذا العرض العريض من أرقى الأبحاث الإسلامية و أضخمها وأجلها شأنا وأعلاها ومن أزخرها بالأفكار الإسلامية الرائعة التي بها تحل مشاكل المجتمع الإسلامي ) . إن عبارة السيد الحائري ( وهي تشكل من ناحية مبدأ عقائديا مذهبيا للشيعة يكون حدا فاصلا لتمييز الشيعي من غيره ) تعني أنه كما أن ولاية أمير المؤمنين عليه السلام تميز الشيعي عن غيره فكذلك مسألة ولاية الفقيه تميز الشيعي عن غيره . فقد تميز الشيعة بولاية الأمير (ع) ثم بقولهم بإمامة الإمام الحسن (ع) فصار الخط أكثر تعينا , ثم قالوا بإمامة الإمام الحسين (ع) ومن بعده حتى زمن الإمام الرضا (ع). وبالوصول إلى زمن الغيبة اشتد التشيع صراحة وحيوية وفاعلية وعمقا وتفصيلا . وولاية الفقيه في زمن الغيبة ليست إلا امتدادا لهذا اللون . ونحن نعتقد أن كل مفردة أو مسألة إسلامية لا تؤتي ثمارها في عالمنا اليوم فذلك بسبب إنكار الولاية , وكل مسألة تؤتي نضجها وثمارها فالسبب هو دخول الولاية فيها . وقد ذكرنا منذ أول البحث أن الشيعة متفقون على أصل ولاية الفقيه والاختلاف في سعة وضيق هذه الولاية فحسب . وإذا قرأنا ولاية الفقيه من الأصول وليس من الواقع الحي ستبدو واضحة وبديهية , ورد في الرواية ( إذا والى الناس الحاكم العادل بدل الله سيائتهم حسنات ) لأن الأصل المهم الأساس هو مسألة الولاية , وهي كما يعبر أستاذنا الشيخ الجوادي الآملي " الولاية كُرّ يطهّر كل ما وقع فيه " . إذن فولاية الفقيه هي جعل من قبل الله سبحانه , وهي في هذا الجانب ذات بعد كلامي عقائدي لأنها امتداد للنبوة والإمامة , ولكن تنفيذ هذه الولاية وتطبيقها من قبل نفس الولي الفقيه أو المكلفين هي حكم فقهي , ولبيان ذلك نقول : بما أن النبوة والإمامة فعل الله سبحانه فيجب على الناس قبولها كما يجب على الإمام كذلك , ولذا القرآن يخاطب رسول الله صلى الله عليه وآله بقوله ﴿.. وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ.. ﴾ [المائدة: 67] فحتى رسول الله صلى الله عليه وآله هو مبلغ وناقل ومخبر عن الله وليس جاعلا وفاعلا. وللتوضيح : هناك فرق بين شخصية الولي الفقيه الحقيقية والحقوقية , فالولي الفقيه بما هو فقيه يجب عليه أيضا أن يلتزم بولاية الفقيه . بمعنى : لو كان هناك فقيه تتوفر فيه خصائص القيادة وهناك أناس أعلنوا البيعة له ولديهم استعداد للانقياد والطاعة فيجب عليه قبول البيعة . لأن القيادة مسألة كلامية لكن تنفيد هذه المسألة حكم فقهي واجب على الفقيه . حكم الله يتجلى في زمن الغيبة يقول الإمام الخميني في كتاب البيع : ( دليل الإمامة بعينه دليل على لزوم الحكومة بعد غيبة ولي الأمر عجل الله فرجه الشريف، ولا سيّما مع هذه السنين المتمادية ولعلها تطول –لا سمح الله- إلى آلاف السنين والعلم عند الله ). إذا تعاملنا مع دليل ولاية الفقيه باختباره كلاميا عقائديا ولم نعالجه ابتداء من الواقع الخارجي فسيكون واضحا بديهيا , كما هي مسألة العدل تماما ، فإذا فهمنا مسألة العدل من العقائد ثم قرأنا الواقع الخارجي فسوف نرى مسألة العدل واضحة وبديهية جدا ولن يكون هناك أي مبرر لتصور شيء خلاف العدل , وكذلك ولاية الفقيه إذا بدأناها من الإلهيات فسنقرؤها من موقعها الصافي الخالي من الشوش والشبهات . تابعوا آيات حاكمية الله في القرآن الكريم , كم من الآيات التي تحصر الحاكمية في الله سبحانه وتعالى ، ومعنى وجود كل هذه الآيات , وهذا اللسان الحصري الشديد على صعيد كلامي يفيد أن الحكم فعل الله . من تلك الآيات قوله تعالى ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ﴾ [يوسف:12]، ﴿ .. وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [القصص: 88 ] ﴿.. أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ..﴾ [الأنعام: 62]. وضوح هذه الآيات ونصيتها وانحصار هذا الحكم في الله سبحانه وتعالى يجعلنا لا نرتاب في أن الحكم فعل الله و شأن الله سبحانه لا يشاركه فيه أحد وكل حاكم لم ينصبه الله سبحانه حتى لو حكم بالعدل فهو طاغوت ولا تجوز إطاعته . ( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ) تعني الله سبحانه وتعالى له الحكم وهو يحدد الحاكم ، ونحن نعتقد أن كل حاكم لا بد أن يكون إما منصوبا من الله سبحانه وتعالى على نحو التعيين أو على نحو الموضوع ، والذي لا يعتقد بولاية الفقيه بناءً على هذه النظرية التي تتباها مدرسة السيد الإمام والشهيد الصدر وقبلهما الميرزا النائيني فمشكلته عقائدية , أي أن عنده نقصا في التوحيد . يقول الشيخ جعفر السبحاني في كتاب الإلهيات: ( إن التوحيد في الحاكمية من شؤون التوحيد في الربوبية فإن الرب بما أنه صاحب المربوب ومالكه وبعبارة ثانية خالقه وموجده من العدم له حق التصرف والتسلط . . . وعلى هذا فالحاكمية خاصة بالله سبحانه وهي منحصرة فيه ). هذا من جانب ومن جانب آخر إن وجود الحكومة في المجتمع أمر ضروري ، فوجه الجمع بين حصر الحاكمية في الله سبحانه و لزوم كون الحاكم والأمير بشرا كالمحكوم هو لزوم كون من يمثل مقام الإمرة مأذونا من جانبه سبحانه لإدارة الأمور ، و أن تكون ولايته مستمدة من ولايته سبحانه ، فالولاية وحق الحاكمية له سبحانه وعلى ضوء ذلك يجب أن يكون المتمثل بها منصوبا من قبله سبحانه باسمه الخاص أو بوصفه - إلى أن يقول- إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة وهي أن الحاكمية فرع الولاية على المحكوم ولا ولاية إلا لله سبحانه فلا حكومة إلا له ، غير أن تجسيد الحكومة في المجتمع بمعنى الإمرة عليه ليس من شؤونه بل يقوم به المأذون من جانبه إما بالاسم ، أو بالوصف والعنوان كما هو الحال في حق العلماء والفقهاء الذين لهم الحكم والإمرة عند غيبة النبي أو الإمام المنصوص عليه بالاسم وعلى هذا فالحكومات القائمة في المجتمعات يجب أن تكون شرعيتها مستمدة من ولايته سبحانه وحكمه بوجه من الوجوه وإذا كانت علاقتها منقطعة غير موصولة به سبحانه فهي حكومات طاغوتية لا قيمة لها) (1) يتبع
|
![]() |
الكلمات الدلالية (Tags) |
1436, ام عباس, بحث, سيدا, قائدا |
|
|