وجعلته سيدا من السادة – 7
حكم الله يتجلى في زمن الغيبة بولاية الفقيه
أقمنا فيما سبق الدليل على أن القيادة ضرورة عقلية و شرعية في زمن الغيبة كما في زمان حضور المعصوم صلوات الله وسلامه عليه. ولا يمكن أن نتصور أن الشارع الذي يهتم بتفاصيل حياة الإنسان ويعيّن له أموره الجزئية جداً كالطهارة وأسبابها ونواقضها أن لا يهتم بقضية مهمة ورئيسية يتوقف عليها حفظ مصالحه الدنيوية والأخروية.
إن تصور أن لا يكون هناك نظرية واضحة للحكومة الإسلامية هو اتهام للإسلام , هذا الدين الذي يدعي الصلاحية لإدارة الدنيا والآخرة . بل إن تصوّر أن لا تكون نظرية القيادة في الإسلام بديهية واعتبارها مسألة غامضة تحتاج لإقامة أدلة تخصصية ولا يفهمها إلا الأوحدي من الأمة هو اتهام يضعف الدين , لأنها ضرورة من الضروريات العقلية والاجتماعية التي لا يختلف عليها اثنان ، ولا يقابلها إلا نظرية واحدة سنستعرضها ونرد عليها.
النظرية التي تقابل نظرية ضرورة القيادة هي نظرية المدينة الفاضلة , وهي تقول أننا إذا ربينا الناس على مستوى الأخلاق الراقية فسوف يعرف كل منهم حقه وحق الآخر , ونصيبه ونصيب الآخر ، ودوره ودور الآخر ، وبذلك تعيش الإنسانية مدينة فاضلة لا حاجة فيها إلى حاكم ومحكوم بسبب وصول الناس فيها إلى حدّ من العدالة والفضيلة ، بحيث لا يحتاجون إلى وجود مؤسسات تشريعية ولا تنفيذية ولا قانونية.
والخلل في هذه النظرية يتمثل في أنها علاوة على كونها خيالا ووهما فهي تفتقر إلى تحديد معايير العدل الظلم، فلا يوجد من يحدد ذلك، وهو ما يمكن أن يكون منشأً للخلاف.
وبهذا يمكن القول بأنه لا توجد نظرية معقولة على الصعيد الإنساني في جميع الفلسفات البشرية لا تقول بضرورة وجود قائد حاكم مدبر يجب الرجوع إليه. فضلا عن اعتبارنا – نحن الشيعة - مسألة القيادة والولاية نقطة أساسية نمتاز بها عن بقية المدارس الإسلامية.
الدليل الثاني على مسألة ولاية الفقيه
- مسألة القيادة والولاية نقطة أساسية نمتاز بها عن بقية المدارس الإسلامية .
الدليل الثاني على مسألة ولاية الفقيه :
تقدّم الدليل الأول في إثبات نظرية ولاية الفقيه , والذي كان بديهيا وواضحا , واليوم سنعرض الدليل الثاني الذي يستمد قوته ليس من جهة البداهة والوضوح بل من جهة علوّ مكانته , وقيمته العقائدية ومرتبته الكلامية , فمنشأ هذا الدليل كلامي ينطلق من الإلهيات .
مفاد هذا الدليل هو أن ولاية الفقيه مسألة عقائدية لا فقهية . ولبيان ذلك لا بد من التفريق بين المسائل الفقهية والكلامية :
تنقسم العلوم إلى علوم ترتبط بأفعال الإنسان: ما يجب أن يفعله وما يجب أن يتركه وما هو مباح له ... إلخ . وهذا ما نسميه بعلم الفقه . وهناك علم آخر يرتبط بأفعال الله سبحانه وهو علم الكلام أو ما يطلق عليه الإلهيات والحكمة في مراتبه العالية . وهو يبحث في وحدانية الله سبحانه وتعالى وأفعاله وأسمائه وصفاته الجمالية والجلالية .
في المسألة الفقهية يرجع كل مكلّف إلى المجتهد الذي يقلده في الأمور الفقهية , لكن في المسائل العقائدية لا يوجد عندنا تقليد, فالإنسان يجب أن يبحث بنفسه عن أدلتها, وتكون قيمتها في مدى اقتناعه وإيمانه بها . ومن لا يمتلك هذه القيمة العلمية في العقائد فهناك نقص في عقائده ويحتاج إلى تصحيحها .
إذا نقحنا الأصول الكلامية لدينا فستتولد مدرسة كلامية تشمل جميع العقائد التي نؤمن بها , ومن ضمنها مسألة القيادة والحكومة . لذا من الأخطاء التي وقع فيها البعض أنه اعتبر ولاية الفقيه مسألة شرعية فرعية وليست مسألة عقائدية كلامية . والحال أن من يقف على كلمات الفقهاء يدرك أنها مسألة عقائدية ، فهي امتداد للإمامة . يقول الشهيد الصدر في كتاب الإسلام يقود الحياة ( وقد امتدت الإمامة بعد عصر الغيبة في المرجعية كما كانت الإمامة بدورها امتدادا للنبوة ) فالسيد الشهيد يعتبر الولاية خطا ممتدا, وكل دليل يجري في مسألة النبوة والإمامة يجري أيضا في مسألة الولاية , فهل يوجد من يقلد فقيها في مسألة النبوة والإمامة ؟!!
ولاية الفقيه فعل الله سبحانه
يقول الإمام الخميني ( ولاية الفقيه ليست أمرا أوجده مجلس الخبراء إن الله تعالى هو الذي أوجد ولاية الفقيه وهي نفس ولاية رسول الله صلى الله عليه وآله ) ومن خلال كلام الإمام يفهم أن ولاية الفقيه هي فعل الله , أي إن الله هو الذي يبعث النبي أو يعين الإمام إما بشكل مباشر أو غير مباشر . فالإمام المعصوم عندما يعين الفقيه وليا في زمن الغيبة فإن ولايته تكون من قبل الله.
ويقول آية الله السيد كاظم الحائري في كتاب الإمامة وقيادة المجتمع: ( إن فكرة الإمامة بما تشتمل عليها من قيادة المجتمع وبما لها من الامتداد في خط ولاية الفقيه لهي فكرة حية حركية واسعة النطاق عميقة الغور وهي تشكل من ناحية مبدأ عقائديا مذهبيا للشيعة يكون حدا فاصلا لتمييز الشيعي من غيره ، وتعبّر من ناحية أخرى عن شكل الحكم لدى الشيعة . ولهذا أصبح بحث الإمامة وبهذا العرض العريض من أرقى الأبحاث الإسلامية و أضخمها وأجلها شأنا وأعلاها ومن أزخرها بالأفكار الإسلامية الرائعة التي بها تحل مشاكل المجتمع الإسلامي ) . إن عبارة السيد الحائري ( وهي تشكل من ناحية مبدأ عقائديا مذهبيا للشيعة يكون حدا فاصلا لتمييز الشيعي من غيره ) تعني أنه كما أن ولاية أمير المؤمنين عليه السلام تميز الشيعي عن غيره فكذلك مسألة ولاية الفقيه تميز الشيعي عن غيره . فقد تميز الشيعة بولاية الأمير (ع) ثم بقولهم بإمامة الإمام الحسن (ع) فصار الخط أكثر تعينا , ثم قالوا بإمامة الإمام الحسين (ع) ومن بعده حتى زمن الإمام الرضا (ع). وبالوصول إلى زمن الغيبة اشتد التشيع صراحة وحيوية وفاعلية وعمقا وتفصيلا . وولاية الفقيه في زمن الغيبة ليست إلا امتدادا لهذا اللون . ونحن نعتقد أن كل مفردة أو مسألة إسلامية لا تؤتي ثمارها في عالمنا اليوم فذلك بسبب إنكار الولاية , وكل مسألة تؤتي نضجها وثمارها فالسبب هو دخول الولاية فيها . وقد ذكرنا منذ أول البحث أن الشيعة متفقون على أصل ولاية الفقيه والاختلاف في سعة وضيق هذه الولاية فحسب .
وإذا قرأنا ولاية الفقيه من الأصول وليس من الواقع الحي ستبدو واضحة وبديهية , ورد في الرواية ( إذا والى الناس الحاكم العادل بدل الله سيائتهم حسنات ) لأن الأصل المهم الأساس هو مسألة الولاية , وهي كما يعبر أستاذنا الشيخ الجوادي الآملي " الولاية كُرّ يطهّر كل ما وقع فيه " .
إذن فولاية الفقيه هي جعل من قبل الله سبحانه , وهي في هذا الجانب ذات بعد كلامي عقائدي لأنها امتداد للنبوة والإمامة , ولكن تنفيذ هذه الولاية وتطبيقها من قبل نفس الولي الفقيه أو المكلفين هي حكم فقهي , ولبيان ذلك نقول :
بما أن النبوة والإمامة فعل الله سبحانه فيجب على الناس قبولها كما يجب على الإمام كذلك , ولذا القرآن يخاطب رسول الله صلى الله عليه وآله بقوله ﴿.. وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ.. ﴾ [المائدة: 67] فحتى رسول الله صلى الله عليه وآله هو مبلغ وناقل ومخبر عن الله وليس جاعلا وفاعلا.
وللتوضيح : هناك فرق بين شخصية الولي الفقيه الحقيقية والحقوقية , فالولي الفقيه بما هو فقيه يجب عليه أيضا أن يلتزم بولاية الفقيه . بمعنى : لو كان هناك فقيه تتوفر فيه خصائص القيادة وهناك أناس أعلنوا البيعة له ولديهم استعداد للانقياد والطاعة فيجب عليه قبول البيعة . لأن القيادة مسألة كلامية لكن تنفيد هذه المسألة حكم فقهي واجب على الفقيه .
حكم الله يتجلى في زمن الغيبة
يقول الإمام الخميني في كتاب البيع : ( دليل الإمامة بعينه دليل على لزوم الحكومة بعد غيبة ولي الأمر عجل الله فرجه الشريف، ولا سيّما مع هذه السنين المتمادية ولعلها تطول –لا سمح الله- إلى آلاف السنين والعلم عند الله ).
إذا تعاملنا مع دليل ولاية الفقيه باختباره كلاميا عقائديا ولم نعالجه ابتداء من الواقع الخارجي فسيكون واضحا بديهيا , كما هي مسألة العدل تماما ، فإذا فهمنا مسألة العدل من العقائد ثم قرأنا الواقع الخارجي فسوف نرى مسألة العدل واضحة وبديهية جدا ولن يكون هناك أي مبرر لتصور شيء خلاف العدل , وكذلك ولاية الفقيه إذا بدأناها من الإلهيات فسنقرؤها من موقعها الصافي الخالي من الشوش والشبهات .
تابعوا آيات حاكمية الله في القرآن الكريم , كم من الآيات التي تحصر الحاكمية في الله سبحانه وتعالى ، ومعنى وجود كل هذه الآيات , وهذا اللسان الحصري الشديد على صعيد كلامي يفيد أن الحكم فعل الله . من تلك الآيات قوله تعالى ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ﴾ [يوسف:12]، ﴿ .. وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [القصص: 88 ] ﴿.. أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ..﴾ [الأنعام: 62]. وضوح هذه الآيات ونصيتها وانحصار هذا الحكم في الله سبحانه وتعالى يجعلنا لا نرتاب في أن الحكم فعل الله و شأن الله سبحانه لا يشاركه فيه أحد وكل حاكم لم ينصبه الله سبحانه حتى لو حكم بالعدل فهو طاغوت ولا تجوز إطاعته .
( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ) تعني الله سبحانه وتعالى له الحكم وهو يحدد الحاكم ، ونحن نعتقد أن كل حاكم لا بد أن يكون إما منصوبا من الله سبحانه وتعالى على نحو التعيين أو على نحو الموضوع ، والذي لا يعتقد بولاية الفقيه بناءً على هذه النظرية التي تتباها مدرسة السيد الإمام والشهيد الصدر وقبلهما الميرزا النائيني فمشكلته عقائدية , أي أن عنده نقصا في التوحيد .
يقول الشيخ جعفر السبحاني في كتاب الإلهيات: ( إن التوحيد في الحاكمية من شؤون التوحيد في الربوبية فإن الرب بما أنه صاحب المربوب ومالكه وبعبارة ثانية خالقه وموجده من العدم له حق التصرف والتسلط . . . وعلى هذا فالحاكمية خاصة بالله سبحانه وهي منحصرة فيه ). هذا من جانب ومن جانب آخر إن وجود الحكومة في المجتمع أمر ضروري ، فوجه الجمع بين حصر الحاكمية في الله سبحانه و لزوم كون الحاكم والأمير بشرا كالمحكوم هو لزوم كون من يمثل مقام الإمرة مأذونا من جانبه سبحانه لإدارة الأمور ، و أن تكون ولايته مستمدة من ولايته سبحانه ، فالولاية وحق الحاكمية له سبحانه وعلى ضوء ذلك يجب أن يكون المتمثل بها منصوبا من قبله سبحانه باسمه الخاص أو بوصفه - إلى أن يقول- إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة وهي أن الحاكمية فرع الولاية على المحكوم ولا ولاية إلا لله سبحانه فلا حكومة إلا له ، غير أن تجسيد الحكومة في المجتمع بمعنى الإمرة عليه ليس من شؤونه بل يقوم به المأذون من جانبه إما بالاسم ، أو بالوصف والعنوان كما هو الحال في حق العلماء والفقهاء الذين لهم الحكم والإمرة عند غيبة النبي أو الإمام المنصوص عليه بالاسم وعلى هذا فالحكومات القائمة في المجتمعات يجب أن تكون شرعيتها مستمدة من ولايته سبحانه وحكمه بوجه من الوجوه وإذا كانت علاقتها منقطعة غير موصولة به سبحانه فهي حكومات طاغوتية لا قيمة لها) (1)
يتبع