|
« آخـــر الــمــواضــيــع »
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
04-11-2016, 04:32 PM | #1 | |||
Senior Member
|
التحول الفكري عند الشهيد (د. سيد جاسم العلوي)
♻التحول الفكري عند السيد محمد باقر الصدر من فلسفتنا إلى الأسس المنطقية إلى الاستقراء.
✒بقلم الدكتور السيد جاسم العلوي. إن كتاب الأسس المنطقية للاستقراء يشهد على التحول الفكري الذي مر به السيد الشهيد لجملة من القضايا الفكرية التي كان قد آمن بها في فلسفتنا. ففي فلسفتنا تبنى السيد الشهيد بالكامل المذهب العقلي – الميتافيزيقي الذي يعتمد المنطق الأرسطي في رؤيته الشاملة للمعرفة والوجود لكنه تحول عنها بعد أن شيد في كتابه الأسس المنطقية للاستقراء مذهبه الخاص والذي اسماه بالمذهب الذاتي. وهذا المذهب الجديد في نظرية المعرفة قد يتفق وقد يختلف عن المذهب العقلي ولكن في إطار رؤية أصيلة أقام أسسها وعرضها في كتابة الأسس المنطقية للاستقراء. وسنحاول في هذه الورقة القصيرة أن نوجز هذا التحول الفكري في شاهدين رغم أن هناك عددا من الشواهد على هذا التحول. إن السيد الشهيد يؤكد على هذا التحول لديه فهو يذكر في كتابه الأسس المنطقية في الصفحة ٧ " ونحن في هذا الكتاب إذ نحاول إعادة بناء نظرية المعرفة على أساس معين، ودراسة نقاطها الأساسية في ضوء يختلف عما تقدم في كتاب فلسفتنا...". أولاً: في الدليل الاستقرائي : يمارس العقل نوعين من الاستدلال أحدهما الاستنباط – القياس- والآخر الاستقراء. وفي الاستنباط يسير العقل من العام الكلي إلى الخاص الجزئي و تكون النتيجة دائما أصغر من المقدمات. فإذا صدقت المقدمات صدقت النتيجة والعكس صحيح. و لا يمكن أن تكون المقدمات صادقة و النتيجة كاذبة أو العكس لأن ذلك يستبطن تناقضا منطقيا. وبالتالي تستند النتيجة المتولدة في هذه الطريقة على مبدأ عدم التناقض. الاستقراء الناقص هو أحد الأدلة التي يمارسها العقل البشري ويراد به كل استدلال تكون النتيجة فيه اكبر المقدمات التي أفضت إلى تلك النتيجة. أما في الاستقراء الكامل تكون النتيجة مساوية للمقدمات ، و الاستقراء الكامل هو نوع من الاستنباط للتساوي بين المقدمة و النتيجة . ما يهمنا هو الاستقراء الناقص الذي يمكن أن يستبطن تناقضاً منطقياً بين النتيجة المتولدة والمقدمات المولدة لها. حيث يمكن أن تكون النتيجة كاذبة و إن صدقت المقدمات و لا يستلزم ذلك أية تناقض منطقي بينهما. إذن هناك ثغرة منطقية في هذا الاستدلال فكيف نبرر منطقياً التعميمات المتحصلة من القضايا الاستقرائية أي القفز من الخاص إلى العام بحيث يكون الاستقراء الناقص مفيدا للعلم؟ في فلسفتنا آمن السيد الشهيد منسجما في ذلك مع المذهب العقلي أن الاستقراء الناقص لا يمتلك مثل هذا التبرير و أن العقل البشري لا يمارس في الحقيقة إلا نوعا واحدا من الاستدلال و هو القياس و هذا يعني أن الاستقراء يتضمن قياسا يستمد كبراه من عدد من المعارف العقلية القبلية التي لا تخضع للتجربة و صغراه من هذه القضايا الاستقرائية. يقول السيد الشهيد في فلسفتنا ص٧٤ " و بهذا يتضح أن جميع النظريات التجريبية في العلوم الطبيعية ترتكز على عدة معارف عقلية لا تخضع للتجربة، بل يؤمن العقل بها إيمانا مباشرا وهي: أولا مبدأ العلية ... ثانيا مبدأ الانسجام بين العلة و المعلول ...ثالثا مبدأ عدم التناقض..." و يقول في موضع آخر من نفس الصفحة " و يتضح لنا على ضوء ما سبق أن استنتاج نتيجة علمية من التجربة يتوقف دائما على الاستدلال القياسي ، الذي يسير فيه الذهن البشري من العام إلى الخاص، و من الكلي إلى الجزئي كما يرى المذهب العقلي" ولقد برر المنطق الأرسطي على أن الاستقراء يتخذ شكلا قياسيا من أن الصدفة لا يمكن أن تتكرر في القضايا الاستقرائية. فمثلا لنفترض أن(أ) دائماً تقترن بـ (ب) في جميع التجارب التي نجريها. هذا الاقتران التزامني بين(أ) و(ب) بمعنى التعاقب الزمني في ظهور )ب( كلما و جد(أ)،لا يكشف عما إذا كانت(أ) و(ب) يرتبطان على النحو الذي يجعل من(أ) سببا في وجود (ب) أو أن عدمها عدم لـ (ب) أو لا. فقد يكون هذا الاقتران بينهما اتفاقاً أي مصادفة، وهنا نحتاج إلى البرهان الذي ينفي الصدفة بينهما و يؤكد لنا أن هذا الاقتران بين(أ) و(ب) في عدد كبير من التجارب ليس صدفة و إنما يعبر عن علاقة سببية وجودية بينهما، ذلك لأن نفي الصدفة نفي لعدم اللزوم، وهو يعني في المقابل أن هذا الاقتران يعبر عن حقيقة وجودية لزومية بحيث يلزم من وجود(أ) وجود(ب). و لنفي الصدفة افترض المنطق الأرسطي قضية عقلية قبلية مفادها أن الاتفاق لا يكون دائمياً أو أكثرياً " بمعنى أن الاقتران بين(أ) و(ب) في عدد كاف من التجارب لا يمكن أن يكون اتفاقاً، فالعقل يدرك بشكل مستقل أن هذا غير ممكن. و بهذا ينقلب الاستقراء الناقص قياساً إذ يتألف كبراه من هذه القضية العقلية و صغراه من هذه القضايا التي شملها الاستقراء. لم يقبل السيد الصدر في كتابه الأسس هذا التبرير الأرسطي الذي يرتكز على نفي تكرار الصدفة – النسبية - في عدد محدد من التجارب بمعنى أن "الاتفاق لا يكون دائمياً أو أكثرياً " باعتبارها قضية عقلية قبلية. ولقد شكل بموقفه الرافض لهذا التبرير حداً زمنيا يفصل بين مرحلتين من تطور نظرية المعرفة على ضوء المذهب العقلي. لقد كان هذا التبرير الأرسطي مقبولا ًلكل الفلاسفة المسلمين باعتبار هذه القضية – المبدأ الأرسطي - يدركها العقل كضرورة قبل التجربة. لكن السيد الصدر رضوان الله عليه بمثل عبقريته النادرة وجه اعتراضات سبعة تنسف كون عدم تكرار الصدفة – النسبية- في التجارب مبدأ عقلياً قبلياً و بالتالي تنسف المرتكز الأساس الذي يعطي للتعميم في الاستقراء الناقص مبرراته المنطقية. و قد أكد في هذا الكتاب على أن الاستقراء لا يتضمن قياسا و أن الاستقراء يسير بطريقة معاكسة للقياس أي من الخاص إلى العام. يقول رضوان الله عليه في كتابه الأسس المنطقية ص6 " و من أجل هذا يعتبر السير الفكري في الدليل الاستقرائي معاكسا للسير في الدليل الاستنباطي الذي يصطنع الطريقة القياسية، فبينما يسير الدليل الاستنباطي –وفق الطريقة القياسية –من العام إلى الخاص عادة، يسير الدليل الاستقرائي –خلافا لذلك – من الخاص إلى العام" ثانيا في النظريات العلمية و المبادىء العقلية القبلية ترتكز قضايا العلوم على استقراء العلاقات في الظواهر الطبيعية لمعرفة القوانين المنتجة لها. لكن الاستقراء يواجه ثلاث مشكلات منطقية و نلخصها فيما يلي: أولا: عجزه عن إثبات السببية كظاهرة، فبدون الإيمان المسبق بهذه البديهية العقلية تكون الصدفة هي التي تحكم الحوادث. ثانياً: عجزه عن إثبات السببية الخاصة، أي أن الحرارة هي سبب تمدد الحديد أو أن الجاذبية هي السبب في سقوط الأجسام باتجاه الأرض. بمعنى أن الاستقراء بوصفه تجميع عددي للحوادث لا يكشف عن أسباب خاصة مسؤولة في توليد تلك الحوادث. ثالثاً: عجزه عن إثبات أن هذه العلاقة بين السبب و المسبب هي علاقة تتصف بالاطراد و الاستمرارية خارج نطاق التجربة و في المستقبل. هذه المشاكل التي تواجه الدليل الاستقرائي و التي يفقد معها استقلالية الوصول إلى الحقائق. و لقد تغلب المنطق الأرسطي على هذه المشاكل الثلاث بالاستعانة بالقضايا العقلية. فقد تمكن من التغلب على المشكلة الأولى و الثانية بالرجوع إلى المعارف العقلية القبلية، فالإيمان بالسببية كمبدأ عقلي أولي فوق التجربة وباعتباره قانون عام يتحكم في كل ظواهر الكون الطبيعية والاجتماعية والسياسية و الاقتصادية و التاريخية. كما أنه بالرجوع إلى المبدأ و الذي يمكن البرهنة عليه من مبدأ السببية و القائل " أن القضايا المتشابهة تؤدي إلى نتائج متماثلة " يمكن التغلب على المشكلة الثالثة. فالمسببات تتبع أسبابها على الدوام إذا توفرت الشروط الموضوعية لذلك. أما المشكلة الثانية، التي يعجز فيها الاستقراء عن إثبات أن هناك سبباً كـ(أ) و ليس(ج) أو (د) أو (هـ) مثلاً هو المسؤول عن وجود (ب)، فقد تغلب عليها بافتراض القضية العقلية التي تنفي الصدفة أو الاتفاق في التجارب المتكررة و التي دائماً تؤكد سببية (أ) لـ( ب). " فالاتفاق لا يكون دائمياً " فبافتراض هذه القضية العقلية يتخلص الاستقراء من مشكلاته المنطقية جميعاً و تصبح التعميمات الاستقرائية لها مبرراتها المنطقية. و قد آمن السيد الشهيد في فلسفتنا وفق المذهب العقلي المحكوم بالمنطق الأرسطي الذي كان يتبناه أن هناك نوع من القضايا لا يمكن إثباتها بالحس و التجربة وهي تلك القضايا التي يؤمن العقل بها دون أن يطالب بالدليل عليها. كمبدأ العلية و مبدأ عدم التناقض إذ يكفي أن يتصور المرء أطرافها و النسبة بينها لكي يؤمن بها. فنراه يقول في فلسفتنا الصفحة 73 " إن العلوم الطبيعية التي يريد التجريبيون إقامتها على أساس التجربة الخالصة هي بنفسها تحتاج إلى أصول عقلية أولية سابقة على التجارب..." . إن المنطق العقلي يرى أن هناك طريقة واحدة للاستدلال و هي الطريقة الاستنباطية التي يكون فيها التلازم بين المقدمة و النتيجة تلازما موضوعيا. و أعتبر رضوان الله عليه أن جميع قضايا العلوم التجريبية و ما تنتجه من نظريات علمية تحتاج إلى هذه المصادرات العقلية القبلية لكي يتسنى لها الوصول إلى النتائج النهائية المتمثلة بالتعميم. لكن السيد في كتابه الأسس المنطقية بعد أن تبنى المذهب الذاتي في المعرفة ، حيث رأى أن هذه المبادئ القبلية يمكن إثباتها بالاستقراء و استثنى من ذلك مبدأ عدم التناقض وبديهيات نظرية الاحتمال وهي التي يحتاجها الدليل الاستقرائي كمصادرات قبلية. يقول رضوان الله عليه في صفحة ٦٦ " ... حيث نستعرض – بشمول ، عمق- النظرية التي يتبناها هذا الكتاب في تفسير الدليل الاستقرائي و التي تؤكد أن الاستقراء يؤدي إلى التعميم بدون الحاجة إلى مصادرات ..." . و اعتبر أن الأساس المنطقي لجميع القضايا المتعلقة بالعلوم إنما تقوم على الدليل الاستقرائي الذي يمر بمرحلتين : المرحلة الاستنباطية من الدليل حيث تنمو المعرفة بطريقة التوالد الموضوعي والذي يفيد في تنمية الاحتمال حتى يبلغ درجة عالية من الاحتمال و مرحلة ذاتية تنمو فيها المعرفة بطريقة التوالد الذاتي حيث يعتمد الدليل الاستقرائي في هذه المرحلة على مصادرة كفيلة بنقل الاحتمال العالي في المرحلة الاستنباطية إلى اليقين و بالتالي من الخاص إلى العام. إن السيد الشهيد يرى في أن الجزء الأكبر من المعرفة البشرية هي حصيلة التعميمات الاستقرائية و هي تستنتج بطريقة التوالد الذاتي و ليس الموضوعي. و أخيرا لا يملك المرء إلا أن ينحني إجلالا عند الحديث عن شخصية السيد محمد باقر الصدر رضوان الله تعالى عليه التي كانت نموذجاً للشخصية الإسلامية التي جسدت العالم المفكر و العالم الرباني و العالم المجاهد. و رغم أنها عبرت مسرح الحياة بسرعة إلا أنها خلفت أثارا عميقة في الحياة على الصعيد الفكري و الروحي و البطولي. بدأ حياته الشريفة صغيرا يقرأ قراءة الناقد البصير للفكر الإنساني كما يروي احد أساتذته في المدرسة الابتدائية التي كان يدرس فيها في الكاظم ببغداد ثم ما لبث أن ارتحل منها إلى النجف الأشرف ليصبح مرجعا و هو في ريعان شبابه بعد أن أثر في الفكر الحوزوي تأثيرا عميقا على مستوى الأصول و الفقه و حتى التفسير مكونا مدرسته الفكرية الحوزوية الخاصة ولم يكن ذلك بالأمر اليسير في ظل مرجعية كبيرة كمرجعية السيد الخوئي رحمة الله. لكن عطاءه الحوزوي لم يمنعه عن الاهتمام بالفكر الإنساني و المبادرة باكتشاف الرؤية الإسلامية لمختلف القضايا الفكرية التي كانت تغزو العالم الإسلامي من أدناه إلى أقصاه. كان قلمه الشريف مسخرا لخدمة القضايا الفكرية التي تعصف بالأمة و كان جديرا بشكل منقطع النظير في التصدي لها و بيان رأي الإسلام فيها. ____________________________ * الدكتور السيد جاسم العلوي: ●حاصل على البكالوريوس و الماجستير في الفيزياء من جامعة الملك فهد للبترول و المعادن . ●حاصل على الدكتوراه من جامعة درهم (durham) في بريطانيا في الفيزياء الرياضية. ●لديه اهتمام بالشأن الفلسفي و خصوصا المرتبط منها بقضايا العلوم. ●لديه مؤلف عنوانه العالم بين العلم و الفلسفة. ●لديه عدد من الأبحاث منشورة و لديه العديد من المقالات العلمية و الفلسفي. |
|||
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|