![]() |
|
« آخـــر الــمــواضــيــع »
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
|||
|
|||
![]()
بحث الاستاذة ام عباس ( وجعلته سيدا من السادة وقائدا من القادة ) لشهر محرم 1436هـ ( البحث كاملا )
وجعلته سيدا من السادة وقائدا من القادة (1) محرم 1436 عندما تجد الأمة قيادتها ورد في زيارة الأربعين للإمام الحسين عليه السلام: (اللّـهُمَّ إنّي أشْهَدُ اَنَّهُ وَلِيُّكَ وَابْنُ وَلِيِّكَ وَصَفِيُّكَ وَابْنُ صَفِيِّكَ الْفائِزُ بِكَرامَتِكَ، أكْرَمْتَهُ بِالشَّهادَةِ وَحَبَوْتَهُ بِالسَّعادَةِ، وَاَجْتَبَيْتَهُ بِطيبِ الْوِلادَةِ، وَجَعَلْتَهُ سَيِّداً مِنَ السادَةِ، وَقائِداً مِنَ الْقادَةِ، وَذائِداً مِنْ الْذادَةِ، وَأعْطَيْتَهُ مَواريثَ الأنْبِياءِ، وَجَعَلْتَهُ حُجَّةً عَلى خَلْقِكَ مِنَ الأوْصِياءِ، فَأعْذَرَ فىِ الدُّعاءِ وَمَنَحَ النُّصْحَ، وَبَذَلَ مُهْجَتَهُ فيكَ لِيَسْتَنْقِذَ عِبادَكَ مِنَ الْجَهالَةِ وَحَيْرَةِ الضَّلالَةِ). عنوان البحث مقتبس من هذا النص المبارك (وجعلته سَيِّداً مِنَ السادَةِ، وَقائِداً مِنَ الْقادَةِ). ويدور حول مؤهلات القيادة وعناصرها الأساسية. هذه المادة واسعة ولها أبعاد كلامية وفقهية وعقائدية وأخلاقية سنتطرق إليها بما يخدم فهم هذه العبارة. هناك أوصاف وسمات كثيره للإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه، ويمكن تقسيمها من عدة حيثيات. ولكن سنقسمها بما يتناسب وحديثنا إلى صفات ذاتية وصفات إضافية. - الصفات الذاتية: هي الصفات التي لا يتوقف تصورها وفاعليتها على وجود طرف آخر. ككون الإمام الحسين عليه السلام معصوم أو حبيب الله أو حجته على خلقة -فالحجة في الرواية قبل الخلق- أو أنه خامس أهل الكساء. هذه الصفات تخص الإمام الحسين (ع) ولا تحتاج إلى طرف آخر. ومعرفة هذا النوع من الصفات يزيد المعتقد بالإمام الحسين معرفة وإيمانا به. - الصفات الإضافية: هي التي لا يمكن تصورها إلا بتصور طرف ثان، ومنها أن الإمام الحسين (ع) قائد أو سيد أو إمام أو ذائد. فلا يمكن تصور القيادة إلا بوجود مقودين، ولا إمامة إلا بوجود مأمومين .. وهكذا. وكما أنها معرّفات للأمام عليه السلام فهي أيضا معرفات لكل الناس، ولا تتحقق إلا بتصور علاقة الناس بالإمام ودور الناس حيال هذه العلاقة. ومن طبيعة الصفات الإضافية أنها تحدد نوع الاتصال بين المضاف والمضاف إليه، وتعين درجة الاتصال والمسافة بينهما. ومعرفة هذه الصفات تحمّلنا دوراً ووظيفة. غاية البحث: سيكون حديثنا حول هذه الصفات التي جعلها الله للإمام الحسين عليه السلام لنحقق التالي: 1. أن نعرف موقفنا منه ومن منهجه عليه السلام، وموقعنا في هذه الحلقة النورية التي يمثلها الإمام الحسين ضمن سلسلة أولياء الله ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَىٰ﴾ [المؤمنون: 44]. 2. أن يشكل ما نعرفه من موقعية الإمام الحسين كقائد وسيد بوصلة يجب ألا تضيع علينا في تضاعيف حياتنا، وبها ينبغي أن نحدد مسارنا وطريقنا وطريقتنا (1) خصوصا مع مرورنا بهذه الظروف المتغيرة، التي نحتاج فيها إلى تحديد المؤشر لسلامة سلوكنا ومدى استقامتنا على المستوى الفردي والاجتماعي وعلى نطاق الأمة. 3. أن نستعين بمعرفة عناصر القيادة الموجودة في الإمام الحسين عليه السلام في تحديد القيادات في أوساطنا، فالزيارة عبرت بأن الإمام الحسين سيد (من السادة) وقائد (من القادة)، وهي في ضمن ذلك توحي بأن حاجة المجتمع للقيادة هي ما يقره العقل والشرع. وعناصر القيادة التي هي في المعصوم تامة كاملة يفترض أن تتوفر بقدر في أشخاص على مستوى الأمة في كل زمان ومكان. بداية نحن أمام عدة مفاهيم أساسية ينبغي معرفتها للوصول إلى النتيجة وهي: 1/ الجعل الإلهي 2/ السيادة 3/ القيادة وسنفصل في كل منها بما يلي: مفهوم الجعل في القرآن سوف لن نقف على معنى الجعل من ناحية لغوية، بل من جهة قرآنية (2). استعمل (الجعل) في القرآن في موارد عديدة بمعنى يرادف (الخلق)، إلا أنه يختص بالبعد المعنوي لا المادي. فإذا تحدث القرآن عن الجانب المادي للأشياء ومنها الإنسان فهو يعبّر بالخلق ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ﴾ [ص: 71] ﴿ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا﴾ [المؤمنون: 14] وأما إذا كان الحديث عن الجانب المعنوي فإن القرآن يعبر عنه بالجعل ﴿.. إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً..﴾ [البقرة: 30] ﴿.. إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ..﴾ [المائدة: 20] فالخلافة والنبوة مقامات معنوية، لأن الجعل هو التحويل والتبديل من حال إلى حال أرقى وأكثر شرافة، وهو صيرورة وتبدّل في جوهر الإنسان. وهذا ما درجت عليه الأدعية الواردة عن أهل البيت (ع) أيضا. جاء في دعاء كميل (وَاجْعَلْني مِنْ أحْسَنِ عَبيدِكَ نَصيباً عِنْدَكَ، وَاَقْرَبِهِمْ مَنْزِلَةً مِنْكَ، وَاَخَصِّهِمْ زُلْفَةً لَدَيْكَ، فَاِنَّهُ لا يُنالُ ذلِكَ إلاّ بِفَضْلِكَ) وورد في دعاء عرفة (اَللّهُمَّ اجْعَلْني اَخْشاكَ كَاُنّي اَراكَ، وَاَسْعِدْني بِتَقواكَ، وَلا تُشْقِني بِمَعْصِيَتِكَ). اللهم اجعلني أخشاك كأني أراك وأسعدني بتقواك ولا تخزني بمعصيتك) وأيضا (اجْعَلْنِي مِمَّنْ رَضِيتَ عَمَلَهُ وَقَصَّرْتَ أَمَلَهُ، وَأَطَلْتَ عُمْرَهُ، وَأَحْيَيْتَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ حَيَاةً طَيِّبَةً) فالإنسان مخلوق بشراً من طين، ولكن هناك مراحل تطال جوهر الإنسان تأتي لاحقة على بشريته. هذا النحو من الجعل يجري على سائر المخلوقات أيضا. فالقرآن يعبّر عن الجنبة المادية من وجودها بالخلق، ويعبّر عن آثارها المعنوية بالجعل. يقول تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّور..﴾ [الأنعام: 1] السماوات والأرض وجود مادي، ولذا عبر عنه بالخلق. أما نظام الظلمات والنور فليس كذلك، فبه تحيا الموجودات وتنمو وتتكامل. إذن الجعل هو مرحله راقيه جداً بالقياس إلى الخلق. وأعلى جعل أعطاه الله لمخلوق كان لمحمد وآله عليهم السلام، جاء في الزيارة الجامعة: (فَجَعَلَكُمْ بِعَرْشِهِ مُحْدِقينَ حَتّى مَنَّ عَلَيْنا بِكُمْ، فَجَعَلَكُمْ فى بُيُوت اَذِنَ اللهُ اَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فيهَا اسْمُهُ). ولعله من أجل هذه النكتة خص الله نبيه محمدا صلى الله عليه وآله بالخطاب حين تحدث عن جعل آدم خليفة فقال: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ يقول أستاذنا الشيخ الجوادي الآملي جاء الخطاب بصيغه المفرد (ربك) وخصّ الرسول الأكرم بها مع أن مقام جعل خليفه لله يرتبط بنوع الانسان، وذلك لأن فعلية المقام في المرتبة الكاملة يختص بالكمّل ثم الأدون والأدون ولا اختصاص له بآدم. ولأن النبي محمد صلى الله عليه وآله قد حظى بأعلى درجات الخلافة الإلهية وهو أعظم اسم تعلمه آدم من أسماء الله فقد جعل (ص) معيارا ومِلاكا لمقام الجعل هذا، فكل مجعول لخلافة الله في الأرض فمقامه بميزان محمد صلى الله عليه وآله. مفهوم الجعل في الروايات على ما يظهر أن المفهوم القرآني الذي أسلفنا بيانه للجعل كان بديهيا إلى حد أنّ أصحاب الأئمة تلقوا هذا المفهوم بنفس المعنى (أي علو المرتبة والمكانة المعنوية) ففي مقبولة عمر بن حنظلة نجد هذا التعبير: روى محمد بن يعقوب في الكافي عن محمد بن صفوان عن محمد بن الحسين عن محمد بن عيسى عن صفوان بن يحيى عن داود بن الحصين عن عمر بن حظلة قال: سألت الإمام جعفر الصادق (ع): عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دَين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة أيحل لهم ذلك؟ قال (ع): من تحاكما إليه في حق أو باطل فإنما تحاكما إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سُحتاً وإن كان حقاً ثابتاً له، لأنه أخذه بحكم الطاغوت، وما أمر الله أن يكفر به قال الله تعالى: ﴿ ..دد؟يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ..﴾ [النساء: 60]. قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران من كان منكم ممن قد روي حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا ردَّ، والراد علينا راد على الله، الراد على الله وهو على حد الشرّك بالله. (فإني قد جعلته عليكم حاكماً) هذه العبارة تعدّ الجعل مرتبة معنوية تعتمد على إمكانيات واقعية. وأقل ما يستفاد من هذه الرواية منصب القضاء، وسوف يأتي نقاش ذلك في طيات البحث. أقسام الجعل يمكن تقسيم الجعل إلى 1. تكويني 2. تشريعي 3. استعدادي 1/ الجعل التكويني: هو نوع جعل ينتخبه الله سبحانه ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ..﴾ [الحج: 75] فالله ينتخب من الناس رسلا ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ [الأنبياء: 73] ومن الملائكة ﴿جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ [فاطر: 1]. فليس كل الناس رسلا، ولا كل الملائكة رسل، بل هناك من يجعله الله سبحانه انتخابا واصطفاء. 2/ الجعل التشريعي: وهو أن يرضى الشارع وضع شخص في موضع معين وفق اعتبارات معينة. وهو يختلف عن الجعل التكويني الذي يعني العصمة والكمال التام. ومثاله تولية أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الأشتر، هذا الجعل من الأمير (ع) لمالك يجعل طاعته واجبة ومخالفته لا تجوز، ليس لأنه معصوم ورأيه يطابق الواقع بل لأنه منصّب من قبل المعصوم. وهو عين دليل من يقول بولاية الفقيه، فالولي الفقيه مجعول باعتبارات رضيها الشارع المقدس، وهو لا يحكم بالواقع بل بما يراه من مصلحة باعتباره الأكفأ، ومخالفته مخالفة للشرع. 3/ الجعل الاستعدادي: وهو جعل شأني لدى الإنسان بحيث يمكن أن يكوّن أرضية لمشاعر وأخلاقيات معينة. ومثاله ما جعله الله من مودة ورحمة بين الزوجين ﴿..وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً..﴾ [الروم: 21] فالأصل هو عدم وجود العلقة بين الجنسين لكن الاستعداد للمودة والرحمة موجود. وهذا لا ينفي وجود موانع تنفي فعلية الاستعداد. ما نريد أن نصل إليه هو أنّ سيادة الإمام الحسين عليه السلام وقيادته تكوينية وتشريعية واستعدادية في آن واحد، لأن من وجد التكوين فقد طابق ذلك التشريع والاستعداد من باب الأولوية. ومن يملك الجعل التكويني يكون له القدرة والاستعداد للتأثير والهداية. أصحاب الإمام الحسين عليه السلام لمسوا هذه القيادة والسيادة في الحسين عليه السلام، في وسط ذلك الشوش والتيه الذي كانت تغرق فيه الأمة. اثنان وسبعون شخصا فقط هم من وجد القائد السيد وشخصوه وانقادوا له. بينما انبرت الأمة لتكون ممن أسرجت وألجمت وتنقبت لقتاله. إلا لعنة الله على الظالمين ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــ (1) الطريقة هي باطن الشريعة، فهناك شريعة تتمثل في مجموعة الممارسات الشرعية كالصلاة والحج وغيرها، وهناك طريقة هي باطن هذه العبادات. (2) القرآن والروايات تعطي الألفاظ دلالات مختلفة عن الدلالة اللغوية الصرفة، فالتقية مثلا ترجعها اللغة إلى جذر واحد مع التقوى والوقاية، لكنها في الاصطلاح الديني تعني إخفاء المذهب والأمن من الضرر. |
#2
|
|||
|
|||
![]() وجعلته سيدا من السادة وقائدا من القادة - 2 القيادة الصالحة جعل إلهي (2) قلنا أن حديثنا سيكون حول خصائص القيادة وضرورة وجود القائد في كل زمان ومكان. وقلنا أنه قبل الدخول في تفاصيل ذلك لا بد من بيان وتوضيح ثلاثة مفاهيم هي: الجعل - السيادة - القيادة. وقد فصلنا الحديث حول (الجعل)، وسنتمّ الحديث حوله أيضا في هذه الجلسة. الجعل كمال وترقّ في شقّي الصلاح والفساد ذكرنا أن الجعل هو: صيرورة معنوية وتحول وانقلاب وترقٍ وكمال في أصل الأشياء وذكرنا الجانب الكمالي في هذه الصيرورة. على أن هناك فرق بين استخدام مصطلح الكمال بالمعنى الفلسفي واستخدامه بالمعنى العرفي ، فالكمال في المعنى العرفي يُفهم منه النمو الإيجابي في جانب الفضائل, أما الكمال بالمعنى الفلسفي فيعني وصول الشيء إلى هدفه. وهذا يعني أنه يشمل – أيضا- جانب التسافل والفساد. فكل الموجودات-وفق المباني الفلسفية- مشمولة بنظام الحركة الجوهرية، ولذا حتى الانحدار إلى الدركات السفلى هو – أيضا- وصول إلى الغاية والهدف. في ذلك يقول الله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ ﴾ [القصص: 41]. فالمنحرف يهدف إلى الوصول إلى اللذة والجبروت والسلطة وهذا بالنسبة إلى مقصودة تكامل، والجعل في الآية السابقة ناظر إلى هدف أولئك. فإذا ما امتلأ الإنسان بالقوة السبعية والحيوانية وصار قلبه أقسى من الحجارة فإنه قد وصل إلى صيرورة يتسافل بها ويصبح إماما إلى النار. وورد الجعل أيضا في قصة نبي الله إبراهيم : ﴿فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلاَّ كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ﴾ [الأنبياء: 53] فقد كانت للأصنام في نفوس المشركين موقعية ليست هي موقعيتها الحقيقية، لذا جعلها خليل الله جذاذا وحولها إلى حقيقتها الواقعية وذلك بتحطيمها ليسلب من النفوس حالة القدسية الوهمية لها. ومنه أيضا ما جاء في دعاء عرفه (لَا تَذَرْنِي فِي طُغْيَانِي عَامِهاً، وَ لَا فِي غَمْرَتِي سَاهِياً حَتَّى حِينٍ، وَ لَا تَجْعَلْنِي عِظَةً لِمَنِ اتَّعَظَ، وَ لَا نَكَالًا لِمَنِ اعْتَبَرَ... وَ لَا تَجْعَلْنِي لِلظَّالِمِينَ ظَهِيراً، وَ لَا لَهُمْ عَلَى مَحْوِ كِتَابِكَ يَداً وَ نَصِيراً، وَ حُطْنِي مِنْ حَيْثُ لَا أَعْلَمُ حِيَاطَةً تَقِينِي بِهَا..). لكن سياق حديثنا لن يتناول هذا الجانب من الجعل, بل سيتناول الجعل الإلهي في جانب الكمال الإيجابي الذي يساوي السعادة والفوز والشرف والرفعة. الجعل في حركته التكاملية نوعان - جعل الفرد. - جعل الأمة. 1- جعل الفرد: كما الإمام الحسين صلوات الله عليه ، على ما ورد في نص زيارته (وَجَعَلْتَهُ سَيِّداً مِنَ السادَةِ، وَقائِداً مِنَ الْقادَةِ), وكما في قول الله لنبيه داوود عليه السلام: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾ [ص: 26]. بمقتضى ربوبية الله وحاجة الناس للحاكم فإن الله يختار وينتقي من خلقه أفرادا لهم امتيازات خاصة ثم يضفي عليهم كمالا إضافيا ليكونوا خلفاء ويحكمون بين الناس بالحق. والناس من حيث الأصل مسلطون على أنفسهم وأموالهم وهذا من حكمة الله (1)-لأن طريق الكمال اختياري وانتخابي- وفي الأصل لا حاكمية لأحد على أحد، ولكن الإنسان يحتاج إضافة إلى هذه الذخيرة والرأسمال الأساسي (العقل- الإدراك – التجربة ..) التي وهبه الله إياها إلى راس مال إضافي هو (الجعل) الإلهي. فعندما يجعل الله داوود خليفة للناس يحكم بينهم بالحق، فإنه قد جعل له علاوة على رأس ماله الأصلي نورا إضافيا وقدرة على التشخيص وتحديد المصلحة. هذا ما يعنيه الجعل الإلهي للفرد. 2- جعل الأمة: وهو مورد حديثنا، ومعناه إضافة كمال وشرف ورفعة للأمة. يقول الله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: 143]. هذه الآية من الآيات المهمة في الدائرة الكلامية والعقائدية والفقهية, وهي تتكلم عن جعل استعدادي تشريفي معنوي تعظيمي للأمة لا للفرد وعلى ذلك أدلة: الدليل الأول: الدليل اللفظي في قوله (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) فـ (ذلك) في اللغة العربية إشارة إلى البعيد، فالله – مثلا- حينما يريد أن يتكلم عن القرآن الذي نقرؤه بين أيدينا يقول: ﴿ذَلَك الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 2] و يشير بـ (ذلك) إلى تلك المعاني والمطالب الراقية في القرآن ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الزخرف: 4]. و(كذلك) التي وردت في الآية فيها نفس النكتة فهي تشير إلى العالي المرتفع (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ)أي أنه جعْل رفيع عالٍ وبه كرامة وتشريف وترقٍّ للأمة، كما أن الشروع بها يشير إلى جعل مرتبي في درجة رفيعة. الدليل الثاني: السياق الذي نزلت فيه الآيات، فإننا نجد الحديث في عامته عن خصائص هذه الأمة. فالآيات السابقة كانت عن نبي الله إبراهيم وبنائه للبيت المشرّف، ودعائه أن يجعل البيت مثابة للناس وأمنا، وأن يجعل مقام إبراهيم مصلى، إلى أن صارت الآيات إلى قول تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ..﴾ [البقرة: 144] وإنما قال يرضاها رسول الله صلى الله عليه وآله لأنه كان يولي وجهه في السماء باحثا عن قبلة يرضاها، فلم تكن قبلة بيت المقدس مرضية عنده، لأنها ليست بمستوى طموحه لهذه الأمة، وتحويلها هو استجابة لدعاء إبراهيم عليه السلام. هذه الأبعاد وهذا الطموح النبوي لم يكن معلوما لدى السفهاء, لذا قال القرآن ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [البقرة: 142] السفيه هو سخيف العقل والفهم، والخفيف في ردود أفعاله وهذا لن يفهم الفضيلة والملاك الذي من أجله تغيرت القبلة، وسيستشكل على القرار الإلهي قبل أن يفهمه, لأن السفيه لا يعرف معايير التوحيد وجذوره، وأن إبراهيم هو المرجع الأول لكل الديانات الإلهية, واختصاص المسلمين بالقبلة يعني قربهم من النبي إبراهيم ونسبتهم له، بخلاف سائر الأمم المليّة التي تتنازع على نسبة الخليل إليها. إن تغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة التي بناها إبراهيم هو استجابة لدعاء الخليل وهو وقوع ملحمة من الملاحم الغيبية, ودلالة على صحة سير رسالة الأنبياء, وهذا لا يعلم تفاصيله إلاّ الموحدون، وهو شرف لهذه الأمة إذ تحولت لها مسيرة الأنبياء بعد أن كانت في نسل إسحاق. ومن لا يفهم هذا فهو سفيه لأنه يتكلم ويحكم دون اطلاع على التوحيد وتاريخ النبوات، ولا على تدبير الله تعالى وحفظه للقيادة الإلهية. في هذا السياق الذي يتحدث عن تشريف هذه الأمة جاءت (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) لتوضح أنه في سياق هذا الكمال هناك مرتبة ثانية وموضوع آخر غير تغيير القبلة، وهو موضوع جعل هذه الأمة أمةً وسطا، وبالالتفات إلى هذا الملاك فإن هذا الشرف والرفعة لا يشمل كل الأمة. فالأمة فيها المكابر والمنافق والمنحرف وغيرهما، على غرار ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104]. ماهي الوسطية ؟ سنعرض رأيين حول مفهوم الوسطية: الرأي الأول: الوسطية هي الاعتدال: ذهب البعض إلى أن الوسطية هي الاعتدال بين الإفراط والتفريط. والمعنى أن الدين الإسلامي بالقياس إلى بقية الأديان الإلهية دين معتدل، فاليهود قد ابتلوا بالإفراط في الميل إلى الدنيا والحرص والبخل والوجاهة (2) ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 96]. ولهذا جاءت المسيحية برسالة روحية وطرح تزهيدي فيه إعراض عن الدنيا لتعالج ذلك الإفراط والحرص على الحياة الذي ابتلي به اليهود. وملاحظ أن الثقافة المسيحية ما تزال مبنية على ترقيق القلب (الإشراقية) حتى اخترعوا الرهبانية وانعزلوا عن القيادة وعن إدارة الشؤون الاجتماعية وعن معالجة الظلم ﴿...وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [الحديد: 27]. مع الإشارة إلى أن الله لم يذم حالة الرهبة من الله لأنها كمال روحي مطلوب، وكلمة ابتدعوها لا تعني هنا البدعة بالاصطلاح الديني اليوم أي إدخال ما ليس في الدين في الدين، بل هي بمعنى الابتكار الذي يبغون به وجه الله تعالى، فلما لم يتوازنوا في اندفاعهم الروحي ولم يرعوها حق رعايتها كانت موضع ذم.(3) ومعنى وسطية الأمة الإسلامية هنا هو أنها لم تقع في إفراط اليهودية ولا في تفريط المسيحية، فهي لا شرقية كالمسيحية ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا﴾ [مريم: 16] ولا غربية كاليهودية ﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ..﴾ [القصص:44] بل إن تعاليم الدين الإسلامي وسطية على الجادة. 2- المعنى الثاني للوسطية: دور عملي هو الشهادة على الناس. وهذا الرأي يذهب إليه صاحب الميزان, فيقول أن الرأي الأول صحيح في حدّ ذاته, ولكنه ليس المراد في الآية، والشواهد الداخلية والخارجية الحافة بالآية لا تتحدث عن هذا المعنى، وذلك لدليلين: 1- أن الآية هنا لا تصف الدين الإسلامي بل تصف أتباع الدين الإسلامي، فهذا الجعل ليس للدين وإنما للمتدينين. فالدين وصف في قوله : ﴿... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا...﴾ [المائدة: 3] بينما الأمة هي المعنية في قوله (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا). 2- مصطلح التوسط بمعنى الاعتدال يستخدم للتعبير عن التوسط الأفقي، لكن نفس الآية تتحدث عن توسط طولي لا أفقي (لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ) و (على) في الآية تفيد العلو والرفعة، فالميزان والمعيار ليس بين طرفين أحدهما في الشرق والآخر في الغرب بل بين طرفين أحدهما عالٍ والآخر دان. فالوسطية هي الدور العملي الذي يحقق الاستعلاء على بقية الناس, وبه يتحقق مفاد الشهادة على الناس. بحسب هذا الرأي يكون معنى الجعل هنا أن هذه الأمة قد جعل لها مرتبة ورفعة وقيادية وسيادية واقعية على سائر الناس, فهذه الأمة ليست أمة مسلوبة الوظيفة في الزعامة والشهادة على الأمم بل لها دور وعمل وشخصية. ثم إن هذه الصفة (الشهادة) هي جعل فيه شرف ورفعة لأنه مرتبة بين الرسول والناس من جهة ولأنه إضفاء صفة من صفات النبي لهذه الأمة ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ [الفتح: 8] هذا الوصف الذي يعد من أبرز صفات القيادة قد أعطي لهذا الأمة. يتبع |
#3
|
|||
|
|||
![]()
وصفات الشاهد هي صفات مثلها رسول الله صلى الله عليه وآله، وعلى ضوئها نأخذ صفات الشهادة التي يجب أن تقوم بها أمته صلى الله عليه وآله:
1- أن يكون نموذجا وميزانا ورمزاً في الاستقامة: فإذا كان الإنسان غير مستقيم فلا يمكن أن تقبل شهادته. 2- موقعه القيادي وإشرافه على الأمة, فهو صلى الله عليه وآله له موقع إشراف على هذه الأمة. نفس هذه الخصائص هي للأئمة عليهم السلام بالأصالة وللأمثل من الأمة بالتبع. إذن هذا جعل جماعي ووظيفة عملية ودور أنيط بالأمة بجعل من الله، ويجب أن تكون الأمة بقدر هذا التشريف. ولأنه جعل إلهي وروحي ومعنوي وله رصيد واقعي لذا يمتاز كليا عن الجعل الاعتباري. وليس هناك من شك أن هذه الأمة فيها من هؤلاء النخب النوعيين الذين يستطيعون تحديد الواقع وقراءة الأحداث, ولا شك أن وجودهم هذا كرم وعطية ولطف إلهي ينبغي تقديره. وأشد بلاء تقع فيه الأمة هو أن تفرط في قياداتها. بعض الأمم يهبهم الله أحسن قيادات ولكنهم لا يعرفون حقها, وهذه الأمة عانت في القرون الأخيرة من هذه المشكلة, وليس قتل الشهيد الصدر عنا ببعيد، وهو الذي لا ينقصه من خصائص القيادة شيء. حين تقتل الأمة قياداتها تكون قد وصلت إلى نقطة الصفر. الذي حدث في هذه الأمة بعد وفاة رسول الله ص هو الانحدار والتسافل، ولم يبق فيها من يحمل هذه الخصوصية إلا هذه المجموعة التي خرج بها الإمام الحسين (ع). يقول أستاذنا الشيخ الجوادي: لو كان في الأمة شخص إضافي يستحق أن يكون مع الإمام الحسين لدعاه الإمام (ع) وأخذه معه إلى كربلاء. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــ (1) القاعدة الفقهية الأولية تجاه كل شيء هي الإباحة، وأن للإنسان مطلق العنان في أن يفعل في نفسه وماله ما يشاء، فالله قد خلق الإنسان حرّا، وفي هذه الحرية كمال له، وبها يصبح أكثر اقتدار على الانتخاب والتجربة وتشخيص الواقع وبالتالي أكثر تكاملا، وبمقدار التضييق على حرية الإنسان يصبح أكثر محدودية وأقل قدرة على التشخيص. وبالنظر إلى المحرمات في الدين فإنها جاءت محصورة في واحد وسبعين محرما، بينما لا حصر للمباحات، لأن معنى الإباحة ترك المجال لأن يعمل الإنسان عقله وإدراكه وفهمه وقدراته ويتكامل. (2) وقد ابتلى الله اليهود بمنع الصيد يوم السبت ليعالجهم من مرض الحرص والبخل: ﴿واسألهم عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ [الأعراف: 163]. (3) يشبه حالة الرهبنة ما نراه اليوم من بعض مظاهر الجزع على الإمام الحسين عليه السلام, فالجزع على الإمام الحسين أمر مطلوب ودلالة على الانفعال والصفاء الروحي، أما تحويلها إلى طقوس وحالة من الجنون فهو أمر آخر غير ما هو مطلوب منه كقطع اليد و خلافه. وبالمناسبة فإن ما أُشيع عن أحد أنصار الإمام الحسين وهو (عابس) من أنه كان مجنون الحسين، هو مما لا سند له فبالتتبع لم نجد كتابا أصيلا يؤكد ذلك الخبر، ولعله قد أُخذت اللفظة من بعض الكتب الفارسية والحال أن مجنون بالفارسية تعني عاشق, لكن للأسف أصبح عابس عنوانا لتبرير الطقوس غير العقلائية، وإلا فإن عابسا لما ألقى بدرعه ودخل أرض المعركة لم يكن لجنون فيه بل هي شجاعة يخيف بها العدو ويرهبه. |
#4
|
|||
|
|||
![]()
سيدا من السادة وقائدا من القادة -3 محرم 1436هـ
الوسطية للأمة دور وضمان (4) الحديث حول القيادة وأثرها على المجتمع, وأنها ذات طرفين قائد وأتباع, وتأثير هذين الطرفين في بعضهما، فكل منهما يصنع الآخر ويبعثه ويعينه على أداء دوره. لقد جعل الله هذه الأمة وسطا لتكون شهيدة على الناس, ومعناه أنه سبحانه أعطاها من المخزون الروحي والمعنوي والفكري والمؤهلات ما يعينها على أداء هذه الوظيفة. جعل الأمة وسطا يدور مدار الشهادة: جعل الأمة وسطا يدور مدار الشهادة على أعمال الناس, وهذا المقام مطلق وممتد للأمة في كل زمان ومكان, وقد ذكرنا أنه ليس من المقامات المختصة بالرسول والأئمة عليهم السلام, فهناك مقامات محصورة فيهم مثل: الرسالة, يقول تعالى: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ﴾ [الحج: 75]، ويقول: ﴿.. اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ..﴾ [الأنعام: 124], والإمامة الخاصة ﴿.. إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا..﴾ [البقرة: 124]. أما مقام العصمة مثلا فهو لا يختص بالمعصومين الأربعة عشر, فكل إنسان مصنوع من مركب إلهي خام يمكن أن يصل به عبر التكامل إلى حدّ العصمة. فبعض أصحاب الأئمة وصل إلى هذا المقام كعمار الذي يدور معه الحق حيثما دار, ولولا فتح باب العصمة لكل البشر لأغلق باب القربى. ومن تلك المقامات غير المختصة بالمعصوم مقام الشهادة. يقول آية الله الشيخ الجوادي: لا توجد أدلة تحصر مقام الشهادة في الأئمة عليهم السلام, بل هناك أدلة تثبت إمكانية حصول ذلك في غيرهم (ع). والقرآن مليء بالآيات التي تدل على أن مقام الشهادة مقام استعدادي منها: الدليل الأول/ قوله تعالى: ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ﴾ [التكاثر: 5-6] أصحاب علم اليقين مطلعين على الجحيم، ليس في الآخرة والبرزخ بل في الدنيا, لأنه في الآخرة الجميع سيرى النار. ورؤية الجحيم لأهل اليقين هي شهادة لحقائق لا يعرفها الناس, ثم إنها ليست رؤية الجحيم بسلاسلها وأغلالها وأصحابها بالمعنى العرفي, بل إن هذا الشهود هو قراءة عميقة للأفراد والمناهج والمواقف الجحيمية, ومعرفة سلاسل وأغلال جهنم التي هي وسائط الخطايا ومقدماتها, وتمييز رائحة جهنم في المواقف والخطابات والسلوك, فالأنانية والجبن وسائر الرذائل ليست إلا جحيما في الواقع. مقام اليقين وهذا الشهود ليس من المقامات العالية الرفيعة التي لا يحصل عليها إلا الأوحد من الناس, فالكثير يصل إلى قراءة حقيقة واقع السعادة والشقاء. الدليل الثاني/ قوله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ [المطففين: 18-21] هناك مقربون يشهدون كتاب الأبرار في هذه الدنيا. هؤلاء المقربون (الشهداء) يقرؤون كتاب الأبرار. ولا يقصد بالكتاب هو الأوراق والغلاف بل الكتاب هو المكتوب. لأننا حين نقول (كتاب) فنحن نعني المعاني الموجودة في الأوراق لا نفس الأوراق, بدليل أنه لو وجدت أوراق فارغة بين دفتين لا يمكن أن يطلق عليها كتابا. هنا نتساءل: ما لذي يشهده الأبرار؟ هل يشهدون أعمال الناس أم مصيرهم؟ يقول الشهيد المطهري: أنهم يشهدون الاثنين, لأنهما في الحقيقة يعودان إلى أمر واحد. فعمل الإنسان وعاقبته وجهان لعملة واحدة, وذلك لأن كل عمل يقوم به الإنسان ينقش آثاره على صفحة وجوده ليكون كتابا مرقوما. والمرقوم: هو الواضح البيّن المقروء. نحن نقول إذا رأينا عملا لا نعرف دوافعه وأسبابه ونتائجه (لم نقرأ الحدث) ونقصد أننا لم نفهمه. أما إذا كان الحدث واضح المعني والبواعث والمنطلقات والنتائج فهو مقروء مرقوم. المقربون يشهدون أعمال ومصير الأبرار, فهم يرون حكمة الأبرار وشجاعتهم وآثارها في وجودهم واضحة بينة (مرقومة) تتميز عن رؤية سائر الناس. مقام الواسطية وسيادة الجماعة في المفهوم القرآني إن وجود هؤلاء (الوسائط) (الشهداء) في الأمة هو ما يقيم عليه الشهيد الصدر مبدأ الولاية. ويفرق رضوان الله عليه بين النظام الغربي في قيادة المجتمع وبين الجعل الإلهي الذي يعتمد على الواسطية. مقام الواسطية جعل واقعي حقيقي كمال معنوي, أو كما عبرنا عنه آنفا بأنه صيرورة وتحول جوهري, فهو بذلك يشكل مائزا واقعيا لشهادة وسيادة الجماعة بالمفهوم القرآني عن حكم الجماعة في النظام الديمقراطي الغربي. يقول الشهيد محمد باقر الصدر في آخر ما كتبه (الإنسان وخلافة الأنبياء): وبهذا تتميّز خلافة الجماعة بمفهومها القرآني والإسلامي عن حكم الجماعة في الأنظمة الديمقراطية الغربية، فإنّ الجماعة في هذه الأنظمة هي صاحبة السيادة، ولا تنوب عن الله في ممارستها، ويترتّب على ذلك أنّها ليست مسؤولةً بين يدي أحد، وغيرُ ملزمة بمقياس موضوعيٍّ في الحكم، بل يكفي أن تتّفق على شيء ولو كان هذا الشيء مخالفاً لمصلحتها ولكرامتها عموماً، أو مخالفاً لمصلحة جزء من الجماعة وكرامته ما دام هذا الجزء قد تنازل عن مصلحته وكرامته. وعلى العكس من ذلك حكم الجماعة القائم على أساس الاستخلاف، فإنّه حكم مسؤول، والجماعة فيه ملزمة بتطبيق الحقّ والعدل، ورفض الظلم والطغيان، وليست مخيَّرةً بين هذا وذاك، حتّى إنّ القرآن الكريم يسمّي الجماعة التي تقبل بالظلم وتستسيغ السكوت عن الطغيان بأنّها « ظالمة لنفسها »، ويعتبرها مسؤولةً عن هذا الظلم ومطالبةً برفضه بأيِّ شكل من الأشكال ولو بالهجرة والانفصال إذا تعذّر التغيير، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الملائِكَةُ ظَالِمِي أنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأويهُمْ جَهَنمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً﴾ [النساء: 97]. قيادة الجماعة المؤمنة وقيادة الجماعة في النظام الغربي: تتميز قيادة الجماعة المؤمنة بـ : 1- الشهادة أمام الله, أو كما يعبر الشهيد الصدر: حكم الجماعة القائم على أساس الاستخلاف والمسؤولية، والجماعة فيه ملزمة بتطبيق الحقّ والعدل، ورفض الظلم والطغيان، وليست مخيَّرةً بين هذا وذاك. والقرآن يصف الأمة التي ترضى بالظلم بأنها ظالمة لنفسها وتستحق النار. وذلك لأن موقف هذه الأمة الراضية بسلب حقوقها لا يمثل الواسطية والجعل الإلهي ﴿إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الملائِكَةُ ظَالِمِي أنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأويهُمْ جَهَنمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً﴾ [النساء: 97]. بينما الجماعة في الديمقراطية الغربية ليست واسطة عن أحد، بل هي صاحبة النظام، تحكي ذاتها ولا تنوب عن أحد في إصدار الأحكام ووضع القوانين، ولا ترى نفسها ملزمة بمقاييس موضوعية في الحكم. 2- الارتباط والتقيد: فان هذه الأمة إنما تمارس الشهادة انطلاقا من مقام الجعل كواسطة مقيّدة بإيصال ما يريده الله, فلا تعمل بهواها أو اجتهادها المنفصل عن توجيه الله بل تقدم حيث يريد الله أن تقدم. ومثال ذلك إعلان الإمام الحسين عليه السلام على رؤوس الملأ أن يزيد شارب الخمر قاتل النفس المحترمة. كل المسلمين كانوا يعلمون ذلك، لأن يزيد كان معلنا ومجاهرا بهذه المعصية, لكن الكل كان يخشى أن يجهر بهذا الواقع لأنّ الأمر سيصل للسلطات وسيحتاج إلى تضحيات. وربما كان الواقع الخانق الذي عاشته الأمة في تلك الظروف جعلتهم -كما يعبر الشهيد الصدر- يعطون أنفسهم المبرر بعدم التصريح بذلك, ولا نستغرب من ذلك, فاليوم شبيه بالأمس، وكلنا يتابع ما يجري في الساحة. الجناة الحقيقيون كتابهم عندنا مرقوم, ولكن من ذا الذي يمكن أن يكون واسطة لله فيعلن عنهم بالاسم والرقم والهوية خصوصا إذا كان شخصية بارزة ولها موقعها الاجتماعي؟! لماذا لم يتحدث الإمام الحسين عليه السلام بلغة دبلوماسية وفنيّة أو يكنّي عن أهدافه من بعيد ليكون ذلك أحفظ لنفسه وعياله وشيعته وأصحابه؟ إنه لم يفعل ذلك؛ لأنه صرف واسطة لا يرى غير واجب الصدق في أداء الوساطة عن الله. ولعل هذا أحد معاني قول الحسين (ع): (ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة. ثم قال: يأبى الله لنا ذلك ورسوله) فالحكم لله والأمر له ولرسوله, ولم يوكل الله للمؤمن أن يذل نفسه فضلا عن أن يتحدث بلسان الأمة ويذلها. |
#5
|
|||
|
|||
![]()
وجعلته سيدا من الساده وقائدا من القاده- 4 محرم 1436هـ
السيادة روح القيادة |
#6
|
|||
|
|||
![]() وجعلته سيدا من الساده وقائدا من القاده- 4 محرم 1436هـ السيادة روح القيادة بعد إيضاح مفهوم الجعل سنتحدث عن موضوع الجعل وهو السيادة والقيادة . هل هناك نكتة في تقديم السيادة على القيادة ؟ هناك قاعدة لغوية تقول : أن الأصل هو عدم ترتيب أثر على تقدم أحد المعطوفين على الآخر مالم يكن هناك تكرار في تقديم أحدهما على الآخر ، فإن لم يكن هناك تكرار في التقديم فلا يعطي للمتقدم أي أهمية أو تميز . (1) وبتتبع سريع للأدعية والزيارات والروايات يلاحظ كثرة تقدم ذكر السيادة على القيادة . منها ما ورد في زيارة أمير المؤمنين (ع) ً اللَّهُمَّ إِنِّي أَتَقَرَّبُ إِلَيْكَ بِزِيَارَتِي إِيَّاهُ وَ أَرْجُو مِنْكَ النَّجَاةَ لِي بِهِ مِنَ النَّارِ بِهِ وَ بِآبَائِهِ وَ أَبْنَائِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ رَضِينَا بِهِمْ أَئِمَّةً وَ سَادَةً وَ قَادَةً (2) ومنها ما ورد عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله قَالَ حُبُّ أَهْلِ بَيْتِي يَنْفَعُ مَنْ أَحَبَّهُمْ فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ مَهُولَةٍ عِنْدَ الْمَوْتِ وَ فِي الْقَبْرِ وَ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنَ الْأَجْدَاثِ وَ عِنْدَ تَطَايُرِ الصُّحُفِ وَ عِنْدَ الْحِسَابِ وَ عِنْدَ الْمِيزَانِ وَ عِنْدَ الصِّرَاطِ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ آمِنًا فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ فَلْيَتَوَالَ عَلِيّاً بَعْدِي وَ لْيَتَمَسَّكْ بِالْحَبْلِ الْمَتِينِ وَ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَ عِتْرَتُهُ مِنْ بَعْدِهِ فَإِنَّهُمْ خُلَفَائِي وَ أَوْلِيَائِي عِلْمُهُمْ عِلْمِي وَ حِلْمُهُمْ حِلْمِي وَ أَدَبُهُمْ أَدَبِي وَ حَسَبُهُمْ حَسَبِي سَادَةُ الْأَوْلِيَاءِ وَ قَادَةُ الْأَتْقِيَاءِ وَ بَقِيَّةُ الْأَنْبِيَاء. (3) وغيرها الكثير إذ بلغت حوالي الـ 44 نصاً تقدم فيه ذكر السيادة على القيادة . هذا من جهة , ومن جهة أخرى فإن السيادة هي روح القيادة , ولا يكون الإنسان قائداً إلا إذا كان سيّدا فالسيادة هي الأصل الذي ينبغي أن يسعى له الإنسان ليمثل الواسطية بين الله وخلقه , فلابد أن تكون نواة السيادة موجودة في من يريد حمل مشروع إلهي فعنها تتفرع إمكانيات القيادة ، وسيتضح ذلك أكثر بعد أن يتجلى لنا مفهوم السيادة . مامعنى السيادة ؟ السيادة في اللغة : ساد من مادة ( سود ): وهو كل ما خالف البياض . وسواد الشيء : شخصه , و إنما سمي السيد سيدا لان الناس يلجئون الى سواده . وورد في كتاب (التحقيق في كلمات القرآن للعلامة حسن المصطفوي) أن السيادة هي : التشخص مع التفوق في مقابل أفراد أخر. اعم من المعنوي و المادي . وفي ( مفردات الراغب ) قال : لما كان من شرط المتولي للجماعة ان يكون مهذب النفس قيل لكل من كان فاضلا في نفسه : سيدا , والسيد هو المتولي للسواد , أي : الجماعة الكثيرة. السيادة ليست العلاقة النسبية حين نزور الإمام بقولنا ( وجعلته سيداً من السادة ) فنحن بلا شك نعني مفهوماً مختلفاً عن السيادة النسبية لأن هذا الاصطلاح ـ السيد بمعنى ابن النبي ـ مستحدث وجديد ولا أصل له في اللغة ولا في الاصلاح الشرعي إذ إننا نخاطب الله سبحانه وتعالى بـ( يا سيد السادات ) . نعم ، وإن عُدّ الانتساب بالولادة للنبي وللصديقة الطاهرة عليهما السلام كمالا إلا أنه كمال مشروط . وإذا كان الانبياء يدعون لذراريهم خاصة فليس لموقعية خاصة في نفوسهم لأبنائهم ، فطلب النبي إبراهيم الإمامة لذريته في الآية ( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ) البقرة : 124 و ( اجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ ) إبراهيم : 35 ، هو دعاء لأن تكون ذريته فداءً للإنسانية لأن معنى الإمامة والقيادة هو أن تقدم رأسمالك في سبيل هداية الأمة ، ومعنى ترك عبادة الأصنام والكفر بالجبت ومقاومة الطاغوت هو مواجهة ما يترتب على هذه المقاومة من نتائج من قبيل الإلقاء في النار والتحريق والتهديد والطرد والسجن والإبعاد والقتل . وهذا الدعاء إنما يستبطن الرغبة في هداية الناس فكل ذلك مقدمات لسوق الناس للحق وخلق الفرصة للناس لمواجهة الطغاة . أن يكون الإنسان ( ذبيح الله ) فهذا يحتاج الى تضحيه كبيرة وهذا ما طلبه نبي الله إبراهيم عليه السلام . ومن هذا المنطلق نجد أن الأولياء والأنبياء قد خصوا ذريتهم بالدعاء بالدرجة الاولى . السيادة بالمفهوم الإلهي السيادة بالمفهوم الإلهي هي الهوية الذاتية التي يحصل عليها الإنسان بعمله وسماته وشمائله . إن الجمل الواردة في الزيارة هي في مقام المدح والثناء ، ولا يكون المدح إلا على الأمور الإختيارية ولا شك أن تحصيل هذه الهويّة هو جعل وصيرورة وتحوّل جوهري يحكي الحركة التكاملية في ذات الإنسان . (4) إذن السيادة مقام واقعي ، وهي تتقوّم بشرطين : 1- الشرط الأول : تهذيب النفس ومحاصرتها : هذه الصفة هي العمدة في الحصول على السيادة , وهي ما أشار إليه القران في حديثه عن يحيى بن زكريا عليهما السلام فقال ( وَسَيِّدًا وَحَصُورًا ) آل عمران : 39 الحصار هو السجن ، والحصور ليس هو من لا يتزوّج ، بل هو الذي يحاصر شهواته ورغباته .ولابد للسيد أن يكون حصوراً , لأنه كثيرا ما يقع ذو الموقع والوجاهة في وهم التفرد والتميّز على الآخرين فيطلق العنان لنفسه وشهواته , وتنتفخ فيه الذاتية فيمارس ما تمليه عليه نفسه بلا رقابة فيبيح لنفسه ما لا يبيحه لغيره ، في الوقت أن أحوج ما يكون الإنسان لمحاصرة نفسه وتهذيبها حين يكون له مقام وموقع ورفعه بين الناس . التعاطي السليم مع النفس في حال الحصول على موقع ومقام هو ما جاء في دعاء مكارم الأخلاق : (وَلا تَـرْفَعْنِي فِيْ النَّاسِ دَرَجَـةً إلاّ حَطَطْتَنِي عِنْدَ نَفْسِي مِثْلَهَا) الإمام زين العابدين عليه السلام في هذا المقطع من الدعاء يطلب من الله أن يريه حجمه الواقعي ، فإذا ما ارتفع الإنسان بين الناس وأصبحت الناس تلجأ إليه وتحف به وأصبح له تفوق خاص فإن هذا يعني صفارة إنذار تنبئه بأنه في خطر . وإذا أراد الله به خيراً أراه حجمه الواقعي فحطه في نفسه بنفس قدر ارتفاعه في نظر الناس . هذه هي السيادة الواقعية، وهذا بلا شك يحتاج إلى ضبط شديد جداً بل يحتاج إلى محاصرة للنفس . إذن أهم خصوصيات السيادة التي يجعلها الله سبحانه وتعالى هي أنها سيادة تكاملية ، سيادة الترقي . فالسيد في المفهوم القرآني هو الرفيع المنزلة في ذاته , وهو من يقصده سواد الناس ويتشخّص لونه عنهم ولكن بامتيازات واقعية . السيادة في الروايات لقد تحدثت الروايات عن السيادة بذات المفهوم القرآني القائم على حصار النفس وترقيتها . جاء عن الإمام علي عليه السلام (السيد : من لا يصانع ، و لا يخادع ، و لا تغره المطامع) (5) . عادة نقرأ هذه المعاني قراءة أخلاقية , لكن دعونا نرفع سقف القراءة من الحدّ الأخلاقي إلى الحدّ الزعامتي والقيادي . السيد لا يصانع . المصانعة في اللغة هي المداهنة والملاينة , والمصانعة أيضا عند العرب هي البيع والشراء , وهذا لا يتناسب والسيادة , لأن السيد صاحب مبدأ وموقف ثابت , وهذا لا يتناسب مع المصانعة التي تجعل الإنسان لا يسجل موقف خلاف مع أحد , ويسعى أن لا يخسر أحداً , يقول الشهيد المطهري : المنافق فقط هو الذي لا يخسر أحداً . نحن لا ندعو إلى التمزيق الداخلي وتفجير الواقع الاجتماعي فنحن مأمورون بمداراة الناس , لكن بالالتزام بالمبادئ التي هي أهم سمات السيادة الواقعية . ثم إن السيد لا يخادع ، والمخادعة ليست كالرياء أي أن تختص بالعبادات فقط , فالمخادع هو من يشتري الوجاهة بأي ثمن كان حتى لو كان الثمن أن يظهر متديناً متعبداً , أو أن يشتريها بالهروب من الموقف الجاد أو بموافقة الرأي العام ، هذا كله ينافي السيادة لأن السيد من ليس في رقبته بيعة لأحد سوى لله. وأخيراً السيد لا تغريه المطامع . من المعلوم أن صاحب أي موقع وسيادة تحيطه الإغراءات الكثيرة ، فإذا انساق لها كان ذلك كاشفاً عن أنه لم يحاصر رغباته وشهواته ولم يصل إلى مرتبة السيادة . 2- الشرط الثاني : صناعة العزة للآخرين: من أهم آفات الموقع والوجاهة والسيادة الوهمية هي التشبث بالموقع ، وهذا يقتضي إقصاء الكفاءات أو تعطيلها , بينما تقوم السيادة في القراءة الدينية على بناء الكفاءات وتطويرها وإبرازها . فاذا كان الانسان سيداً في مجال العلم الديني فيجب أن يقدّم هذا العلم خدمة للناس ليكونوا علماء ، وإذا كان سيداً في علم الطب فيجب أن يبذل ذلك من أجل نفع الناس وهكذا ، لأن السيد سخيّ . ( لما سئل الإمام الصادق عليه السلام عن السؤدد قال : السخاء، ويحك أما رأيت حاتم طي كيف ساد قومه، وما كان بأجودهم موضعا ؟!) (6) . والإعطاء هنا بلا شك أعم من إعطاء المال وإن كان منها ، بل السخاء هو فتح المجال لكل الطاقات باكتشافها وصناعتها وتطويرها . وروي عن الإمام الحسن عليه السلام : الإعطاء قبل السؤال من أكبر السؤدد (7) حين يطلب منك الناس أن تعلمهم وتفعل ذلك فهذا سؤدد , لكن حين تفتح لهم ـ دون طلب ـ طريقا يحببهم في طلب العلم وتبذل من علمك ليترقوا بالمعرفة فهذا من أكبر السؤدد . كما ورد في الرواية ( سيد القوم خادمهم ) (8) التي نقرؤها غالباً في سقف محدود ونحصرها في الخدمات الجزئية لكنها في الحقيقة مطلقه . السيادة تستلزم الخدمة لكنها لا تنحصر في أن تعلم جاهلا أو تقضي حاجه ملهوف أو أن تتبرع بمال … السيد يقدم خدمات تتناسب ومقام السيادة ، وشأن السيادة تقديم الخدمات الكبار . يقول تعالى : ( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ) الأحزاب: 39 ، السيادة التي هي نواة القيادة تعني تقديم مصالح الأمة والإنسانية على الدعة والراحة وتقديم المصالح الواقعية على الأمان الشخصي ، فالذي يبلغ رسالات الله عندما يريد أن يكون سيداً وخادماً للناس فهو يتحرك لنزع الدنيا من أيدي الجبابرة ويقدم في سبيل ذلك كل ما لديه حتى لو خاطر بنفسه لأن السيادة هي أن تنصب نفسك خادماً للمصالح الكبار. السيد الواقعي في أجلى صورة يبينه أمير المؤمنين عليه السلام بقوله : ( ما ساد من احتاج إخوانه إلى غيره ) (9) السيد الواقعي هو من امتلك مؤهلات السيادة التي تجعل الجميع وبشكل طبيعي يرجعون إليه , هو من يقصده الآخرون تلقائياً من غير أن يعطيهم أحد عنوانه .. لأن تعاطيه بذاته أمان للآخرين ولأنه يقضي لهم كل حوائجهم . والمصداق الأبرز لذلك هو الإمام الحسين عليه السلام ، فهو الذي تحتاجه البشرية لنيل مآربها ، وتحتاجه الأنبياء لتتقرب لله بالبكاء عليه فهو سيد السادة وقائد القادة . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــ 1- ذهب البعض إلى أهمية التزكية على التعليم بسبب تكرر تقديم التزكية على التعليم في القرآن . 2- مستدرك الوسائل 10 223 21- باب استحباب زيارة أمير المؤمنين 3- بحار الأنوار ج27 ص162 باب 6- ما ينفع حبهم فيه من المواطن 4- لهذا كان هناك فرق بين القيادة في المفهوم الإلهي عنها في المفهوم المادي , فالقيادة في المفهوم الإلهي تعتمد على السيادة وهي ما ذكرنا من كمال ذاتي تكون أرضية للقيادة , بينما في المفهوم المادي فالقيادة هي مجموعة من إمكانيات ومؤهلات خارجية كالخطابة والبيان والإقناع وغيرها مما يعدونه من سمات القيادة والحال أنها قشور . 5- غرر الحكم ص 341 ف 2 ح 7794 6- بحار الأنوار ج 78 ص 258 ح 142 7- أعيان الشيعة ج 4 ص 88 8- من لا يحضره الفقيه ج4 ص378 9- عيون الحكم والمواعظ |
![]() |
الكلمات الدلالية (Tags) |
1436, ام عباس, بحث, سيدا, قائدا |
|
|