|| منتديات حوزة بنت الهدى للدراسات الإسلامية ||  

العودة   || منتديات حوزة بنت الهدى للدراسات الإسلامية || > || المناسبات || > مناسبات

« آخـــر الــمــواضــيــع »
         :: على خطاها (آخر رد :ام يوسف)       :: المقاطعة تعاطف أم تكليف (آخر رد :ام يوسف)       :: اختبار فلسفة سادس ج١ الفصل الثاني ١٤٤١ه (آخر رد :abeer abuhuliqa)       :: ناقضة الغزل (آخر رد :ام يوسف)       :: طالب العلم وأمانة التبليغ (آخر رد :ام يوسف)       :: إنه الإنسان (آخر رد :ام يوسف)       :: أهمية تحصيل العلم (آخر رد :ام يوسف)       :: سيدة الوجود ...سر الوجود (آخر رد :ام يوسف)       :: نموذج اختبار فلسفة سادس الفصل الأول 1441هج (آخر رد :abeer abuhuliqa)       :: المدرسة القرانية تفسير موضوعي سنة سابعة (آخر رد :ام يوسف)      


إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 05-30-2017, 01:35 PM
فاطمة محمد فاطمة محمد غير متواجد حالياً
Member
 
تاريخ التسجيل: Apr 2017
المشاركات: 34
افتراضي الذكر والحياة الطيبة ( سلسلة دروس لسماحة الشيخ : عبد المحسن النمر )

بسم الله الرحمن الرحيم
الذكر والحياة الطيبة
لسماحة الشيخ عبد المحسن النمر (أبو جعفر)

سلسلة دروس ألقيت في الدمام بتاريخ 5/ رجب/1419
تبتدأ بالذكر وأنواعه لتنتهي بالمستمع ..القارئ للحياة الطيبة
بأسلوب سهل وعميق وبرهاني

الدرس الأول: انواع الذكر وطبقاته

بداية و نظرًا لأن بعض مقدمات البحث تعتمد على وضوح الهدف والغاية التي يريدها الإنسان - وهو كمال نفسه - فإننا نذكر بعض النقاط والتوضيحات بصورة مختصرة وتذكيرية:
عدم التعارض بين العلم و العمل الصالح :

قال تعالى : ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) المجادلة:11 ، ( وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) الانعام:132، ( مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ ) فاطر:10
من هذه الآيات نعلم أن العلم و العمل الصالح هما الصفتان التي يبلغ بهما الإنسان أعلى الدرجات والمنازل كما في الآية الأولى : ( يرفع ...) والآية الثانية ( ولكل درجات ....) فالعمل والعلم كلاهما رسم وتوضيح لبلوغ أعلى درجات الكمال .
وفي الآية الثالثة ( إليه .... ) نتعرف على العلاقة المتفاعلة المتحركة بين العلم والعمل، فالكلم الطيب هوالاعتقاد الصحيح السليم وهو توحيد الله وما يترتب عليه من معارف والمقصود بالعلم هنا - فلا يقصد بالعلم العلوم العملية التي يحتاجها الإنسان في حياته ومعيشته ولا العلوم التي يتوسل بها إلى العمل الصالح ( الفقه مثلًا ) فهذه العلوم رغم أهميتها وسمو شأنها إلا أنها ليست المقصودة – العلم المقصود هو توحيد الله والمعارف التي تنطوي تحت توحيد الله سبحانه وتعالى، ولتوضيح علاقة العمل في رفع العلم الصحيح إلى الله ( العمل الصالح يرفعه ) ورد في بعض التفاسير أن الضمير في (يرفعه) يعود إلى العمل الصالح، فالعمل الصالح هو الذي يُثبت العلم في حقيقة النفس الإنسانية وبالتالي هو الذي يجعل العلم الربّاني مرفوعًا إلى الله، وإلا معرفة توحيد الله وجلاله ما لم تكن راسخة في نفس الإنسان لا تكون ذا قيمة .
إذًا الخلاصة أن العبادة التي هي ارتباط بالله عز وجل تتكئ على العمل الصالح وتنطلق إلى العلم الكامل، فلا قيمة للعمل مالم يكن رافعًا وموطئًا للعلم .
وهذه النقطة تدفع بعض التوهم من وجود التعارض بين العمل الصالح - عمل خيري اجتماعي أو مسؤوليات عملية تجاه الأهل والعائلة والمجتمع - وبين السعي لنيل درجات العلم، فليس هناك تعارض حتى نقدّم أحد هذين الأمرين على الآخر،

فلا العلم له قيمة و اعتبار إلا ما كان راسخًا بالعمل ومحركًا له، والعمل الصالح قيمته بما يحتويه من العلم، فعمل الإنسان مهما بلغت درجته من الصلاح الظاهري والنفع الاجتماعي أو الأسري أو المادي لو كان خاليًا من توحيد الله لكان هذا الفعل هباءً منثورًا .
وهنا ينتفي ما يتصور من التعارض بين التعلم من جهة والعمل الصالح من جهة أخرى .

الكمال هدف لجميع الناس:

إن الكمال وبلوغ أعلى الدرجات - القائم على العلم الراسخ الذي ثبته العمل الصالح - غاية غير قابلة للتخصيص بين إنسان وآخر، وإنما هذه غاية الإنسان بما هو إنسان ككيان ووجود رباني أمر الله سبحانه وتعالى الملائكة بالسجود له، هذا الإنسان الذي يستطيع أن يبلغ درجات أعلى من الملائكة ليس مختصًا أو منقسمًا إلى شعب وأنواع، لا ينقسم إلى أسود أو أبيض ، أو رجل أو امرأة ، أو عربي أو عجمي ، أو أهل أمة دون أمة أخرى .
فلا يصح أن نقول أن الرجل مثلًا دوره وكماله هو في العلم التام وبلوغ مراتب التعلم الصحيحة والسامية ودور المرأة يقتصر على أداء وظائف محددة ومعينة .فهذه الغاية لا فرق بين الناس جميعًا .

السير نحو الكمال هو تدرج من الغفلة إلى الذكر:

علمنا أن غاية الإنسان هي كمال الاعتقاد بالله والارتباط به، والذي يرسخه ويثبته العمل الصالح، لكن من أين يبدأ السير لبلوغ هذه الغاية وإلى أين ينتهي ؟
هذا العمل منطلقه من الغفلة ومنتهاه إلى الذكر قال تعالى : (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) سورة العنكبوت:45.
الذكر والغفلة متقابلان لا يجتمعان في مورد ولا يفترقان أيضًا، فهما إما أن يكونا نقيضين أو يتقابلان تقابل الملكة والعدم، خلاصة ما نريد قوله أنه في الكائن الذي يقبل السير والتدرج والبلوغ إلى مراتب الكمال في كل شأن من شؤونه إما أن يكون ذاكرًا أو غافلًا.
بل جميع الموجودات التي لها خاصية التدرج والسعي إلى الله إما أن تكون ذاكرة أو غافلة، وسيرنا وسلوكنا إلى الله وإلى الكمال هو في تحركنا من الغفلة إلى الذكر، قال تعالى : ( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) البقره:257 فكل ظلمة منطلقها غفلة، والغفلة عن الله لها آثار ومراتب، وكل مرتبة من مراتب الغفلة لها حُجُبها وظلماتها وبالتالي جهنمها ونارها، النار التي تطلع على الأفئدة ( إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ (9)) الهمزة:8-9 هذه النار سرها وحقيقتها الغفلة عن الله .
لكننا هنا نريد أن نشير إلى أقسام الذكر وهذا التقسيم يوجهنا نحو منطلقنا في هذا البحث ..

أنواع الذكر
للذكر أربعة أنواع و كل نوع طبقةً بحد ذاتها وهي :

الذكر اللفظي:
اللفظ بحد ذاته لا يكون ذكرا وإنما المعنى الذي يستنزله اللفظ هو الذكر، اللفظ الذي يفتح لنا باب استحضار صورة ومعنى جمالي أو جلالي لله يكون ذكرا .

و إن كان كرم الله سبحانه وتعالى وشفاعة أولياءه قد تنال من استجاب لله حتى باللفظ إلا أن حقيقة الذكر لا تستقر لمجرد اللفظ، كما في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام : ( من قال: الحمد لله كما هو أهله، شغل كُتّاب السماء، قيل:وكيف يشغل كُتاب السماء ؟ قال عليه السلام، يقولون: اللهم إنا لا نعلم الغيب، قال عليه السلام، فيقول: اكتبوها كما قالها عبدي وعلي ثوابها) مستدرك الوسائل ، ثواب الأعمال وعقابها
نلاحظ إن الملائكة لا تستطيع أن تكتب ( الحمد لله كما هوأهله ) فهل الملائكة لا تستطيع كتابة اللفظ ؟
لأن الذكر ليس مجرد استحضار اللفظ بل الذكر اللفظي هو استحضار الصورة والمعنى الجلالي والجمالي لله سبحانه وتعالى . والذكر اللفظي إما أن يكون باللفظ دون القلب، أو باللفظ مع نزوله للقلب، أو يكون منطلقًا من القلب إلى اللفظ وهذا هو الذكر اللفظي.

الذكر الفعلي:
الطبقة الثانية هو الذكر الفعلي قال تعالى ( يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ غڑ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا غڑ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) سبأ:13 فالشكر الذي أمر الله به آل داود - بما أنعم الله به عليهم - ليس باللفظ وإنما الآية تقول (اعملوا آل داود) فكيف يعمل الإنسان الشكر ؟
وفي الآية عن موسى عليه السلام : ( وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34)) طه
ما هو التناسب بين ( ربي اجعل لي وزيرًا من أهلي ..أشدد به أزري ... أشركه في أمري )
وبين ( كي نسبحك كثيرًا ونذكرك كثيرًا ) ؟
هذه الآية القرآنية تفتح لنا بابا من النظر والتأمل في هذا المعنى، فالذكر أحيانا يتجلى من القلب إلى اللسان كما في آخر وأعلى مرحلة من مراحل الذكر اللفظي، وأحيانًا يمكن للقلب أن ينطلق ذاكرا لله على شكل عمل من الأعمال ( إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَه إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) طه:14الصلاة ليست فقط ألفاظًا وإنما في الصلاة ركوع وسجود وكل منهما قد يكون ذكرا ، والإنفاق وصرف المال في الجهة التي أمر الله بها قد يكون ذكرًا وشكرًا كما أمر الله آل داود (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا) سبأ 13.
ذكر الله من القلب يتجلى أحيانا بصورة عمل وحركة، فيقوم الإنسان تسبيحا، ويجلس خشوعا، ويعطي شكرا، ويمد يده خضوعا، ويخرج دموعه خشية ورهبة، بل كل حركة وكل سكون من الإنسان قد يكون تجليا لصورة إلهيه فيكون ذكرا وإلا فهو غفلة .
فأقوالنا وأفعالنا بين حالين غفلة وذكر، كل كلمة نقولها إما أن تكون ذكرا أو تكون غفلة، وكل فعل نفعله إما أن يكون ذكرا أوغفلة، وليس هناك فعل إلا وينطبق عليه أحد هذين الوصفين الذكر أو الغفلة، يأكل الإنسان غفلةً ويأكل ذكرا، ويشرب غفلةً ويشرب ذكرا، ويقوم غفلةً ويقوم ذكرا، ويكتسب المال غفلةً ويكتسب ذكرا، وينفق كذلك غفلة وذكرا وهكذا.

الذكر الحالي:
كما علّمنا الإمام علي عليه السلام ذلك في دعاء كميل : (يا رَبِّ يا رَبِّ يا رَبِّ، أَسْأَلُكَ بِحَقِّكَ وَقُدْسِكَ وَاَعْظَمِ صِفاتِكَ وَاَسْمائِكَ اَنْ تَجْعَلَ اَوْقاتي مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ بِذِكْرِكَ مَعْمُورَةً، وَبِخِدْمَتِكَ مَوْصُولَةً، وَاَعْمالى عِنْدَكَ مَقْبُولَةً، حَتّى تَكُونَ اَعْمالي وَاَوْرادى كُلُّها وِرْداً واحِداً وَحالى فى خِدْمَتِكَ سَرْمَداً)

الذكر اللفظي
إذا ترسخ في الإنسان ورافقته المعرفة والإدراك الصحيح وشرائط أخرى - نتعرض لها بعد ذلك إن شاء الله - يترقى الإنسان إلى الذكر الفعلي بمعنى أن تكون أفعاله ذكرا لله، وإذا استقرت ورسخت أفعاله في ذكر الله قد تتحول حال الإنسان إلى ذاكر لله دون فرق بين فعل وفعل آخر، بل بلا فرق في وجود فعل أو عدمه فحال الإنسان يكون على الدوام ذاكرا لله .

الذكر الذاتي:
وهو الذكر الأخير الذي سنأخذه منطلقًا للتعرف على أهل الحق محمد وآله الطيبين الطاهرين عليهم السلام .


والحمد لله رب العالمين
البقية تأتي

التعديل الأخير تم بواسطة فاطمة محمد ; 05-31-2017 الساعة 01:39 PM
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 05-30-2017, 02:44 PM
فاطمة محمد فاطمة محمد غير متواجد حالياً
Member
 
تاريخ التسجيل: Apr 2017
المشاركات: 34
افتراضي الذكر والحياة الطيبة ( لسماحة الشيخ عبد المحسن النمر )

الدرس الثاني : الذكر الذاتي


ذكرنا في الدرس السابق بعض المقدمات لموضوعنا وخلاصتها أن عبادة الله سبحانه هي الغاية الأسمى والأكمل، وأن هذه العبادة هي معرفة الله والتقرب إليه، وأن العمل الصالح يثبت ويرسخ هذه المعرفة وهذا الاعتقاد، وأن الطريق إلى الله والسير إليه سبحانه هو سير من الغفلة إلى الذكر، فالمبدأ الذي ننطلق و نتحرك منه هو حالة من الغفلة، وكمال الطريق لله ومنتهاه هو حالة الذكر.
وذكرنا أن للذكر أربع طبقات :

الطبقة الأولى: الذكر اللفظي.
الطبقة الثانية: الذكر الأفعالي.
الطبقة الثالثة: الذكر الأحوالي بحيث تكون حالة الإنسان حاله ذكرية.
الطبقة الرابعة : الذكر الذاتي.



قبل الانتقال لتفاصيل الطبقة الرابعة ولندرك معناها سنذكر تمهيدًا لذلك من خلال الدعاء الوارد عن أهل البيت عليهم السلام ولننظر إليه نظرة التدبر، وابتداءً لابد أن نفهم أن الأدعية الواردة عن أهل البيت عليهم السلام هي تعاليم ومعارف علمية وروحية في آن معًا، وأنها ليست كأي نوع من أنواع المعارف المستقاة، وربما لا نجد لأدعية أهل البيت عليهم السلام شبيهًا إلا كتاب الله، فالقرآن هو كتاب الله النازل وأدعية أهل البيت عليهم السلام هي الكتاب الصاعد، ولهذا يجب أن يكون التعامل مع أدعية أهل البيت عليهم السلام بكيان الإنسان عقلًا وقلبًا.

لنأخذ هذا الدعاء - الذي يستحب قراءته في كل صباح ومساء مع تبديل لفظ أصبح بأمسى - ولنحاول الاستزادة العقلية والروحية منه: ( اَللَّهُمَّ أَصْبِحْ ظُلْمِي مَسَّتْجِيْرَا بِعَفْوِكَ وَأَصْبَحَتْ ذُنُوبُي مستجيرة بِمَغْفِرَتِكَ وَأَصْبِحْ خَوْفِي مَسَّتْجِيْرَا بِأمَانِكَ وَأَصْبِحْ فَقْرِي مَسَّتْجِيْرَا بِغِنَاكَ وَأَصْبِحْ ذُلِّي مَسَّتْجِيْرَا بِعِزِّكَ وَأَصْبِحْ ضُعْفِي مَسَّتْجِيْرَا بِقُوتِكَ وَأَصْبَحَ وَجْهِي البَالِيَ أَلِّفَانِي مَسَّتْجِيْرَا بِوَجْهِكَ الدَّائِمِ البَاقِي يَا كَائِنَا قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَيَا كَائِنًا بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ يَا مُكَوِّنُ كُلِّ شَيْءٍ صَلَّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَالِ مُحَمَّدًا وَاِجْعَلْ لِي مِنْ أَمْرِي فَرَجًا وَمَخْرَجًا وَاُرْزُقْنِي مِنْ حَيْثُ أَحْتَسِبُ وَمِنْ حَيْثُ لَا أَحْتَسِبُ) الباقيات الصالحات – تفسير القمي-
سنأخذ من هذا الدعاء ملاحظات تعود بالتمهيد لموضوعنا :

الأولى استمرارية ودوام الحاجة لله تعالى

عادة ما يكون تصورنا من الحاجة لله والعلاقة به مغلوطًا وغير سليم، فنحن نسلم بأننا فقراء إلى الله أحيانًا - وليس دائمًا - ، ونسلم أننا أذلاء ونستجير بعزة الله أحيانًا أيضًا، ونسلم بأننا ضعفاء ولا نستغني عن قوة الله أحيانًا، وهكذا بقية جوانب النقص والضعف فينا، نعلم بأننا أهل لهذا النقص والضعف، لكننا نغفل أن حقيقة ضعفنا وذلنا في كل حين وكل حال .
ففي الدعاء نقول كل صباح: (فَقْرِي مَسَّتْجِيْرَا بِغِنَاكَ) حتى لو كنا في ذلك اليوم نملك قوت يومنا، بل قوت سنتنا، بل حسب التخيل قوت عمرنا - لو كان المقصود من الفقر في الدعاء هو الفقر المادي - .
ونقول: ( وَأَصْبِحْ ضُعْفِي مَسَّتْجِيْرَا بِقُوتِكَ) حتى لو كنا في ذلك اليوم صحيحي البدن والسمع والنظر، ففي كل حين و كل زمان نحن الضعفاء لله، وما لدينا إنما هو باستجارتنا بالله سبحانه وتعالى، حتى ذلك المعاند الكافر الجاحد بالله الذي يعتقد أنه يملك غنى فهو لا يملك شيء إلا باستجارته بالله تعالى، ولا ينال شيئا إلا برضا الله ( لا الَّذِي أَحْسَنَ اسْتَغْنَى عَنْ عَوْنِكَ وَرَحْمَتِكَ، وَلاَ الَّذِي أَسَاءَ وَاجْتَرَأَ عَلَيْكَ وَلَمْ يُرْضِكَ خَرَجَ عَنْ قُدْرَتِكَ) فكل ما في الكون يقع بعطاء الله ورضاه، و كل من نال لذةً أو أنسًا أو راحةً أو فاز برغبة فمن الله، نعم لو كان جاحدًا -والعياذ بالله - فهذا استدراج من الله سبحانه، لعله يتوب ويرجع، وإن أصرّ واستمر على جحوده فعلى نفسه جنى ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ )44: سورة يونس

الخلاصة: أننا في كل حين و كل آن فقراء لله سبحانه وتعالى على الإطلاق.


الثانية: الاطلاق الأحوالي :
إن جميع كياننا ووجودنا ما هو إلا ضعف وفقر وذل خوف، المقطع الأخير من الدعاء يوضح ذلك ( وَأَصْبَحَ وَجْهِي البَالِيَ) حيث بدأ الدعاء بتعديد الأوجه الواضحة والجليلة التي نعرفها من كياننا الفقر (فأنا فقير إلى غناك)، (فأنا خائف) الخوف ، الذل (فأنا ذليل )، ثم جاءت العبارة الأخيرة توضح أن جميع جهات كيان الإنسان مستجيرة بقدرة الله وقوته ووجهه الباقي .
ننطلق إلى تتمة الدعاء ( يَا كَائِنَا قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَيَا كَائِنًا بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ يَا مُكَوِّنُ كُلِّ شَيْءٍ صَلَّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَالِ مُحَمَّدًا وَاِجْعَلْ لِي مِنْ أَمْرِي فَرَجًا وَمَخْرَجًا وَاُرْزُقْنِي مِنْ حَيْثُ أَحْتَسِبُ وَمِنْ حَيْثُ لَا أَحْتَسِبُ)الباقيات الصالحات / تفسير القمي ما هو الأمر الذي أطلب منه الفرج والمخرج ؟
فالدعاء في فقراته السابقة لم يذكر قضية معينة أو حالة معينة حتى يقول يا رب اجعل لي من هذه الحالة فرجًا ومخرجًا، لذا فالأنسب أن يكون هذا السؤال للخروج من ذل النفس إلى عزة الله، ومن فقر النفس إلى غنى الله، ومن خوف النفس إلى أمان الله، ومن ضعف النفس إلى قوة الله.
ولو أردنا أن نعبر بألفاظ تتناسب بما هو قريب من حالنا وشؤوننا فلنعبر عن هذا الدعاء هكذا: يا رب أنا أصبحت في حياتي أتقلب في أحوالي بين الخوف والفقر والذل حينًا ولكنني يا رب أدرك أنني في كل هذه الأحوال المتقلبة أنا فقير ضعيف ذليل إليك سبحانك وأريد يا رب أن أخرج من ضعف نفسي إلى قوتك المطلقة، ومن فقر نفسي إلى غناك المطلق، يا رب أنت الكريم المعطي الذي لا يعجزه شيء، أنت يا رب مكون كل شيء، وكائن قبل كل شيء، وبعد كل شيء، كرمك لا حدّ له، فأنا يا رب أريد أن أخرج من ذل نفسي إلى عزك، ومن فقر حالي إلى غناك، أنا الآن في هذا الدعاء أقرّ وأعترف لك بأنني لا أملك من الغنى شيئًا ولا من الأمر شيئًا ولا من العز شيئًا ولا من كياني ووجودي شيئًا إلا ما تهبه لي يا رب أخرجني من هذا الذل إلى عزك المطلق، و أخرجني من شقاء هذا الخوف إلى أمنك المطلق، وأخرجني من شقاء هذا الفقر إلى غناك المطلق.
وهذا الخروج من الذل المطلق للنفس إلى العز المطلق لله ومن الفقر المطلق للنفس إلى الغنى المطلق لله هو الذكر لله سبحانه.
الغافل هو الذليل المطلق وإن وجد الجنود والأعوان، وهو الخائف المطلق وإن وجد السلطان والقوة، الغافل هو الذي يتّكل على الأشياء وعلى نفسه وما لديه ويغفل عن الله، كما روى الإمام الصادق عليه السلام عن الله عز وجل: (َوعِزَّتِي وَجَلَالِي وَمَجْدِي وَاِرْتِفَاعِي عَلَى عَرْشِي لَأَقْطَعَنَّ أَمَلَ كُلٌّ مؤمّل غَيْرَي بِاليَأْسِ، وَلَأَكْسُوَنَّهُ ثَوْبُ المذلّة عِنْدَ النَّاسِ، ولأنّحينّه مِنْ قُرْبِي، وَلَأُبْعِدَنَّهُ مِنْ وِصْلِي، أَيُؤَمِّلُ غَيْرَي فِي الشدائد، والشدائد بِيَدِي) الكافي/منية المريد، الغفلة هي الذل والفقر والخوف المطلق، والذكر هو العز والأمن والغنى المطلق، ذكر الله إذا انتقل من ذكر لفظي، إلى ذكر فعلي، ثم إلى ذكر حالي، ثم إلى ذكر ذاتي فإنه يكون في حالة الارتباط والفناء في الكمال المطلق، وهذه الحال هي الطبقة الرابعة من طبقات الذكر وهي الذكر الذاتي.
فالذكر يبدأ لفظيًا فإذا استقر وثبت المعنى في قلب الإنسان؛ فإن أفعال الإنسان تكون ذكرًا أيضًا فيكون قيامه ذكرًا وجلوسه ذكرًا وزيارته ذكرًا وحديثه إلى إخوانه ذكرًا وعمله وكده على عياله ذكرًا، وقيام المرأة بشؤون بيتها ذكرًا، وتربيتها لأبنائها ذكرًا، وتعلمها ذكرًا، وحسن تبعلها ذكرًا، وفي كل فعل تكون أفعالها ذكرًا، كما تكون أفعال الرجل كلها ذكرًا، ثم ينتقل الإنسان إلى أن يكون حاله ذكرًا لله فقلبه وفكره في حال ذكر دائم لله حتى وإن كان لا يذكر الله لفظًا أو فعلًا؛ لأنه أصبح في حال من الانشداد والارتباط بالله، فيكون فعله كسكونه وصمته كلفظه، لأنه ذاكر لله ذكرًا أحواليًا فلا فرق بين فعل وآخر، إلى أن يبلغ درجة المرحلة الرابعة وذلك بأن يكون ذاته ذكرًا.
ربما يكون هذا الدعاء الذي تم ذكره بوابة لإدراك هذا المعنى أريد يا رب أن أكون غنيًا غنًا مطلقًا وعزيز عزة مطلقة وقوي قوة مطلقة إشارة إلى الذكر الذاتي.

أهل الذكر


وعن الرّيّان بن الصّلت، قال: حَضَر الرضا عليه السّلام مَجْلِسَ المأمون بمَرْو وقد اجتمع في مجلسه من علماء العراق وخراسان، وذكر الحديث إلى أن قال فيه الرضا عليه السّلام: «نحن أهل الذكر الّذين قال الله في كتابه: (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فنحن أهلُ الذكر، فاسألوا إن كنتم لا تعلمون».
فقالت العلماء: إنّما عنى الله بذلك اليهود والنصارى. فقال أبو الحسن عليه السّلام: «سبحان الله، وهل يجوز ذلك؟ إذن يدعونا إلى دينهم، ويقولون: هو أفضل من دين الإسلام».
فقال المأمون: فهل عندك في ذلك شرحٌ بخلاف ما قالوا، يا أبا الحسن؟ فقال عليه السّلام: «نعم، الذِكرُ: رسول الله صلّى الله عليه وآله ونحن أهله، وذلك بيّن في كتاب الله تعالى حيث يقول في سورة الطلاق: (فَاتَّقُوا اللّهَ يا أُولِي الاَْلْبابِ الَّذينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللّهِ مُبَيِّنات) فالذِكر: رسولُ الله، ونحنُ أهله»
عيون أخبار الرضا 2 / 216، أمالي الصدوق: 625.
وهذا جمع بين الآيات لتفسيرها، وهذا دروس في أعمق المطالب القرآنية والقواعد التفسيرية القرآنية.

لنأخذ الرواية كما بسطها الإمام عليه السلام ( بأننا أهل الذكر وأن رسول الله هو الذكر ) إذن قولنا بأن الذكر يصل إلى مرحلة الذات وأنه يمكن لبعض الموجودات - ألا وهم أشرف وأعلى الموجودات - أن يكونوا ذكرًا لله لا أن يكون لفظهم أو فعلهم أو حالهم فقط ذكرًا لله، وإنما هم صلوات الله وسلامه عليهم ذكر.
الإنسان العادي من أمثالنا إذا كان لفظه ذكر فإن لفظه الذكري يملك جمالًا - لو كنا ندرك هذا الجمال-، وواقعًا ألفاظه بعضها ذكر وأكثرها ليست بذكر، لكن هذا القليل من الذكر يولد جمالًا وشعاعًا يمتاز عن جميع ألفاظه، وهذا في المرتبة الأولى من الذكر.
والإنسان الذي يترقى ليكون فعله ذكرًا فإن أفعاله التي تكون ذكرًا رغم قلتها يكون لها سموًا ورفعة على سائر أفعاله، وأما أذكاره اللفظية فهي تكون أشد جمالًا من ألفاظ المرتبة الأولى.
والإنسان الذي تكون حاله أحيانًا ذكر ويصل إلى المرتبة الثالثة فإن حاله الذكرية من السمو والرفعة تمتاز عن جميع أحواله، وأما أفعاله فهي أرقى وأتمّ وأنور من أفعال أهل المرتبة الثانية، وأذكاره اللفظية أنور وأشع وأجمل من المرتبة الأولى والثانية .
وأما الإنسان الذي تكون ذاته ذكرًا فألفاظه أكمل الألفاظ وأفعاله أشرف الأفعال وأحواله كلها أسمى الأحوال .
نحن نريد أن نتعرف على هؤلاء الذين هم ذكر، كيف تكون ألفاظهم وأفعالهم وأحوالهم ؟
الإنسان لا يكون في أهل المرتبة الثانية وتكون أكثر أفعاله ذكرًا إلا أن تكون ألفاظه كلها ذكرًا أو معظمها ذكر، أما الإنسان الذي أصبح ذاته ذكرًا فجميع أحواله ذكر ليس له حال دون حال، فضلًا عن أن يكون له فعلًا دون فعل، أو يكون بين ألفاظه تمايز بل كل ألفاظه ذكر وكل أفعاله ذكر وكل حالاته ذكر، فرسول الله صلوات الله وسلامه عليه وأهل بيته الأطهار عليهم السلام ذاتًا هم ذكر، ولذلك هم القرآن الناطق، والقرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهم صلوات الله عليهم لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم ولا من خلفهم، فكل أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم ذكر.
ولهذا سوف يكون مسيرنا في الدروس القادمة من خلال علي بن أبي طالب عليه السلام كنموذج ومثال للذكر .




الحمد لله رب العالمين
البقية تأتي
[/size]

التعديل الأخير تم بواسطة فاطمة محمد ; 06-18-2017 الساعة 04:03 PM
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 06-02-2017, 01:13 AM
فاطمة محمد فاطمة محمد غير متواجد حالياً
Member
 
تاريخ التسجيل: Apr 2017
المشاركات: 34
افتراضي الذكر والحياة الطيبة ( سلسلة دروس لسماحة الشيخ : عبد المحسن النمر )

[SIZE="6"]
الدرس الثالث :
الذكر هو السبيل للحياة الطيبة


قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) الأنفال:24 .

ذكرنا في الدرس السابق أن السير إلى الكمال وإلى السعادة والغاية السامية هو سير وحركة من الغفلة للذكر، فكل غفلة هي خسران وشقاء وكل ذكر هو سعادة وفوز، والإنسان إذا تحرك من الغفلة إلى الذكر فإنه يسير من عالم الفناء والشقاء إلى عالم الفوز والفلاح.

وذكرنا أن الذكر والذاكرين على أربع مراحل:
الذكر اللفظي، والذكر الفعلي، والذكر الحالي، والذكر الذاتي، وفي كل طبقة من طبقات الذكر توجد أركان نحتاج إلى إدراكها واستيعابها لتعيننا على التحرك والانطلاق.

اليوم نشير إلى مادة قرآنية مهمة جدًا تعرضت لها آيات متعددة ويمكن أن نستفيد منها مفاهيم ومدركات غائبة عن أذهاننا ، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) الأنفال:24 تبين الآية المباركة الدعوة الإلهية المحمدية ، وهي إن الاستجابة لله هي باتباع الرسول صلى الله عليه وآله، والاستجابة للرسول صلى الله عليه وآله هي استجابة لله، وهذه الاستجابة هي لإحيائكم (لِمَا يُحْيِيكُمْ) .
والحياة ليست شيئًا واحدًا. فمفهومنا لمصطلح الحياة : هي الوجود - بصورة عامة وليس الإنسان فقط - الذي يملك الإدراك الصحيح والإرادة، والحي هو المدرك والمريد، ويتبع الإدراك والإرادة الفرح والسرور والأنس والبهجة والتمتع واللذة وسائر المشاعر الملائمة للنفس، ويتبعها أيضًا النكد والضيق والخوف والألم وسائر المشاعر غير الملائمة للنفس، هذا هو مصطلحنا ومفهومنا لمعنى الحياة .
فنحن نعتبر أنفسنا أحياء لكن الآية القرآنية تقول أن الرسول صلى الله عليه وآله يدعوكم إلى الحياة! (إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)
فما هي الحياة التي يدعونا إليها الرسول صلى الله عليه وآله ؟
الحياة التي ندركها ليست هي الحياة الوحيدة الموجودة، فهناك حياة أخرى لها فرحها وبهجتها وأنسها ومتعتها ولذائذها وأرزاقها وثمراتها غير ما تعودنا عليه وعرفناه!! .

قال تعالى: ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) النحل:97، أي أن من يستجيب للرسول صلى الله عليه وآله ويعمل صالحًا من ذكر أو أنثى - لأن دعوة الرسول صلى الله عليه وآله هي الإيمان والعمل الصالح – (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)، العلامة الطبطبائي في الميزان يلفت النظر إلى أن هذه الآية المباركة لم تقل فلنجعل حياته طيبة وإنّما (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) أي أن هذه الحياة التي تعرفونها وتعهدونها ليست هي المورد أو الظرف الذي يصلح أن يكون طيبا.

بتعبير آخر: لا يقصد من الآية أن الإنسان المؤمن الذي يعمل صالحًا فإن رزقه سيكون واسعًا، وشؤونه وأموره المادية ستكون أتم وأكمل وأطيب، بل إنه سيحيا غير هذه الحياة، كما أن الإنسان يوم ولد اكتسب حياة، فإنه إذا استجاب للرسول صلى الله عليه وآله وآمن وعمل صالحًا سوف يكتسب حياة أخرى أسمى وأعلى، وهي حياة طيبة .
إذا اقتصر نظرنا ومعرفتنا وإدراكنا على هذه الحياة التي نعيشها فليست هي إلا انتقال من نكد إلى نكد (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) البلد:4، ولن نخرج من النكد أبدًا (وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا) الإسرء:72 ، فإذا كنت تطلب الراحة والسعادة والمتعة عن طريق هذا الظرف الذي نسميه غالبًا حياة فأنت كالساعي إلى السراب (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ) النور :39، ما دمت لم تنتقل من ظرف هذه الحياة إلى الظرف الأوسع و الأكمل والأسمى الذي دعاك إليه رسول الله صلى الله عليه وآله فسوف تبقى في درك الشقاء.

أقسام الناس في الحياة الطيبة :
الناس بالنسبة للحياة الطيبة ينقسمون إلى ثلاثة أقسام :

الأحياء:
وهو القسم الذي أشارت إليه الآية: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) النحل :97
وهم الذين خلص إيمانهم وصلُحت أعمالهم، روي عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: ( إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ الذِّكْرَ جِلاءً لِلْقُلُوبِ تَسْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْوَقْرَةِ وَتُبْصِرُ بِهِ بَعْدَ الْعَشْوَةِ وَتَنْقَادُ بِهِ بَعْدَ الْمُعَانَدَةِ وَمَا بَرِحَ لِلَّهِ عَزَّتْ آلَاؤُهُ فِي الْبُرْهَةِ بَعْدَ الْبُرْهَةِ وَفِي أَزْمَانِ الْفَتَرَاتِ عِبَادٌ نَاجَاهُمْ فِي فِكْرِهِمْ وَكَلَّمَهُمْ فِي ذَاتِ عُقُولِهِمْ فَاسْتَصْبَحُوا بِنُورِ يَقَظَةٍ فِي الْأَبْصَارِ وَالْأَسْمَاعِ وَالْأَفْئِدَةِ يُذَكِّرُونَ بِأَيَّامِ اللَّهِ وَيُخَوِّفُونَ مَقَامَهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَدِلَّةِ فِي الْفَلَوَاتِ مَنْ أَخَذَ الْقَصْدَ حَمِدُوا إِلَيْهِ طَرِيقَهُ وَبَشَّرُوهُ بِالنَّجَاةِ وَمَنْ أَخَذَ يَمِيناً وَشِمَالًا ذَمُّوا إِلَيْهِ الطَّرِيقَ وَحَذَّرُوهُ مِنَ الْهَلَكَةِ وَكَانُوا كَذَلِكَ مَصَابِيحَ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ وَأَدِلَّةَ تِلْكَ الشُّبُهَاتِ وَإِنَّ لِلذِّكْرِ لَأَهْلًا أَخَذُوهُ مِنَ الدُّنْيَا بَدَلًا فَلَمْ تَشْغَلْهُمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْهُ يَقْطَعُونَ بِهِ أَيَّامَ الْحَيَاةِ وَيَهْتِفُونَ بِالزَّوَاجِرِ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ فِي أَسْمَاعِ الْغَافِلِينَ وَيَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ وَيَأْتَمِرُونَ بِهِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيَتَنَاهَوْنَ عَنْهُ فَكَأَنَّمَا قَطَعُوا الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَةِ وَهُمْ فِيهَا فَشَاهَدُوا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ فَكَأَنَّمَا اطَّلَعُوا غُيُوبَ أَهْلِ الْبَرْزَخِ فِي طُولِ الْإِقَامَةِ فِيهِ وَحَقَّقَتِ الْقِيَامَةُ عَلَيْهِمْ عِدَاتِهَا فَكَشَفُوا غِطَاءَ ذَلِكَ لِأَهْلِ الدُّنْيَا حَتَّى كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ مَا لَا يَرَى النَّاسُ وَيَسْمَعُونَ مَا لَا يَسْمَعُونَ فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ لِعَقْلِكَ فِي مَقَاوِمِهِمُ الْمَحْمُودَةِ وَمَجَالِسِهِمُ الْمَشْهُودَةِ وَقَدْ نَشَرُوا دَوَاوِينَ أَعْمَالِهِمْ وَفَرَغُوا لِمُحَاسَبَةِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى كُلِّ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ أُمِرُوا بِهَا فَقَصَّرُوا عَنْهَا أَوْ نُهُوا عَنْهَا فَفَرَّطُوا فيهَا وَحَمَّلُوا ثِقَلَ أَوْزَاِرِهمْ ظُهُورَهُمْ فَضَعُفُوا عَنِ الِاسْتِقْلَالِ بِهَا فَنَشَجُوا نَشِيجاً وَتَجَاوَبُوا نَحِيباً يَعِجُّونَ إِلَى رَبِّهِمْ مِنْ مَقَامِ نَدَمٍ وَاعْتِرَافٍ لَرَأَيْتَ أَعْلَامَ هُدًى وَمَصَابِيحَ دُجًى قَدْ حَفَّتْ بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ وَتَنَزَّلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَفُتِحَتْ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَأُعِدَّتْ لَهُمْ مَقَاعِدُ الْكَرَامَاتِ فِي مَقْعَدٍ اطَّلَعَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِيهِ فَرَضِيَ سَعْيَهُمْ وَحَمِدَ مَقَامَهُمْ يَتَنَسَّمُونَ بِدُعَائِهِ رَوْحَ التَّجَاوُزِ رَهَائِنُ فَاقَةٍ إِلَى فَضْلِهِ وَأُسَارَى ذِلَّةٍ لِعَظَمَتِهِ جَرَحَ طُولُ الْأَسَى قُلُوبَهُمْ وَطُولُ الْبُكَاءِ عُيُونَهُمْ لِكُلِّ بَابِ رَغْبَةٍ إِلَى اللَّهِ مِنْهُمْ يَدٌ قَارِعَةٌ يَسْأَلُونَ مَنْ لَا تَضِيقُ لَدَيْهِ الْمَنَادِحُ وَلَا يَخِيبُ عَلَيْهِ الرَّاغِبُونَ فَحَاسِبْ نَفْسَكَ لِنَفْسِكَ فَإِنَّ غَيْرَهَا مِنَ الْأَنْفُسِ لَهَا حَسِيبٌ غَيْرُكَ .) نهج البلاغة.

هؤلاء هم أهل الحياة الطيبة، إذا كنا نعتقد أن أولياء الله وأنبيائه والأئمة (عليهم السلام)، ومن أخلص في ولائه لهم وكان سيره وسلوكه تحت ولايتهم أنهم يعيشون مثل حياتنا، وأن أحاسيسهم ومشاعرهم مقتصرة - كأحاسيسنا ومشاعرنا - على هذه الأمور والمبادئ المادية من مسكن ومأكل ومشرب ومال و... إلخ ما نعده ذا شأن وذا قيمة فإننا بلا شك لم نعرفهم ولم ندرك شيئًا من مقامهم وشأنهم.
قال تعالى: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون) يونس :62، الآيات لا تقول أن أولياء الله في عالم الآخرة لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، بل تقول من يفوز بولاية الله ويكون تحتها فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون هنا، و سوف نعود إلى توضيح أكثر لهذه الحياة ولكن الآن نكتفي بالإشارة إلى أن الفئة الأولى هم الأحياء في هذه الحياة الطيبة.

الأموات :

هذه الفئة الثانية خلاف الفئة الأولى، قال تعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ ۖ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ) فاطر:22، هؤلاء يا رسول الله الذين كفروا بدينك، ولم يؤمنوا بالله وبرسوله (ص) فهم أموات في القبور، وهم يعيشون على ظهر الأرض إلا أنهم بالنسبة لهذه الحياة الطيبة الحقيقية أموات لا أمل في حياتهم، أفأنت تسمع من في القبور؟ ليس ميت فقط وإنما ميت في قبره، هؤلاء لا أمل في أن ينالوا شيئًا من هذه الحياة، قد كان لهم في فطرتهم مادة حية لكن بعنادهم وجحودهم لرسول الله ماتوا وأصبحوا في القبور، هؤلاء هم الطرف المقابل لأولياء الله والذين يعيشون في الحياة الطيبة.

السائرون نحو طريق الحياة :

هذه الفئة الثالثة لم تبلغ درجة الحياة الطيبة ولكنها في نفس الوقت لم تمت، فرائحة الحياة الطيبة تهب عليهم ونسيمها يصل إليهم، فإذا شملتهم الرحمة الإلهية والشفاعة المحمدية ودخلوا ضمن الولاية العلوية فإن كرم الله يفتح لهم هذه الحياة، ويجعل لهم فيها مسلكًا وطريقًا، لكن ليس لهم ضمان بالبقاء والاستمرار في الحياة بل - والعياذ بالله - قد يموت المرء من تلك الحياة بسوء أعماله وبسوء تصرفه بغروره وتكبره، قد يدركه الموت لأنه لم يعد صالحًا لتلك الحياة، يقول الإمام زين العابدين (ع): (إِلهِي نَفْسٌ أَعْزَزْتَها بِتَوْحِيدِكَ كَيْفَ تُذِلُّها بِمَهانَةِ هِجْرانِكَ) مناجاة الخائفين، الصحيفة السجادية.
إن في تلك الحياة حالات وتعليمات ومشاهد كما في هذه الحياة إلا أنها أسمى وأعلى وأتم وأكمل، نحن نسأل الله بحق المصطفى أن يصلي عليهم صلاة نامية كثيرة وأن يعجل لهم الفرج والنصر والعافية وأن يجعلنا ممن نحيا محياهم، فما هي حياتهم عليهم السلام ؟ هل نظرنا على المال والجاه والمكانة والمنزل والمسكن والعشيرة ؟
فإن رسول الله صلى الله عليه وآله عاش فقيرًا، وأمير المؤمنين عليه السلام عاش فقيرًا زاهدًا، والأئمة الطاهرين عليهم السلام لم ينالوا من هذه الخيرات الظاهرية في الدنيا شيئًا، فلماذا نطلب أن نعيش ونحيا محياهم ؟

الخلاصة :
أن هناك ظرف آخر يمكن أن يتاح لنا العيش فيه، ومن المفترض أن نتحرك ونسعى لنتعرف على هذه الحياة وننال منها.
إن الطريق لهذه الحياة يكون بالانتباه من الغفلة والارتباط بذكر الله، في الدرس القادم إن شاء الله سوف نبين أهمية الارتباط بهذه الحياة .

والحمد لله رب العالمين
البقية تأتي
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 06-08-2017, 08:36 PM
فاطمة محمد فاطمة محمد غير متواجد حالياً
Member
 
تاريخ التسجيل: Apr 2017
المشاركات: 34
افتراضي الذكر والحياة الطيبة ( سلسلة دروس لسماحة الشيخ : عبد المحسن النمر )

الدرس الرابع: صفات الحياة الطيبة

(اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ۗ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) البقرة: 257
في الدرس الماضي أشرنا إلى أنه في نفس الظرف الذي نعيش فيه ( الحياة الدنيا ) توجد حياة ثانية أسميناها بالحياة الطيبة ، على ما يذكره بعض العلماء باستفاداتهم من الآيات القرآنية، وذكرنا أنّ في هذه الحياة الدنيا (المعتادة) توجد وسائل وتعريفات تحدد معنى الحي من الميت، وكذلك هناك مقاييس وتعريفات تحدد الحي من الميت في الحياة الطيبة.

ذكرنا أن الناس بالنسبة للحياة الطيبة ينقسمون إلى ثلاثة أقسام :

1) الأحياء وهم مصداق لهذه الآية القرآنية (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)النحل: 97.
2) الأموات الذين دفنوا وقبروا ولم يعد لهم رجاء أو أمل في هذه الحياة، قال تعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ ۖ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) فاطر: 22، فالجاحدين والكافرين في الحياة المعروفة والمعهودة ليسوا أمواتًا بل لهم دورهم وإدراكهم وأحاسيسهم في الحياة الدنيا، أما بالنسبة للحياة الطيبة فهم أموات بل هم في القبور.
3) السائرون في طريق الحياة وهم الذين لم يُدفنوا ولكنهم لم يبلغوا الدرجة التي تعطيهم صلاحية التأثير والانفعال التام في تلك الحياة وإنما بإيمانهم بالله وولايتهم لأهل الحق فإنهم يتحسسون رائحة تلك الحياة ويعيشون على أمل ورجاء بلوغ تلك الحياة الطيبة.

موقع الحياة الطيبة في حياتنا الدنيا :

اليوم نشير إلى صفات تلك الحياة الطيبة، هل هي على خلاف الحياة التي نعيشها بحيث أن الإنسان تكون له حياتان منفصلتان لا علاقة لأحدهما بالأخرى ؟
هل أن الإنسان الذي بلغ درجة تلك الحياة يعيش وقته منقسمًا إلى قسمين: قسم يتعامل ويعيش مع الحياة الدنيا وقسم يتعامل ويعيش مع الحياة الطيبة ؟
هل هي كمرض انفصام الشخصية بحيث إذا أصاب الإنسان أصبحت تمر به حالتان مختلفتان، يعيش في إحداهما بمواصفات وخصائص وطبائع معينة ويعيش في الحالة الثانية بطبائع ومواصفات مختلفة ؟ فقد يكون المصاب بالمرض مهندسًا مثلًا يعيش طبيعة معينة ومزاجًا وأحاسيسًا معينة ثم حين يصاب بذلك المرض وتظهر الآثار يصبح في حالة مختلفة وشخصية مختلفة ومزاج جديد وعلاقته تختلف عن حالته الأولى - هذا مما ذكره الأطباء وتحدثوا به، وكتبت عنه الجهات العلمية والقصصية - هل أن الحياة الطيبة مثل هذا النوع يعيش في الصباح في عمله ويؤثر ويتأثر بطبيعة معينة، ثم عندما يجن الليل مثلًا يتوجه لله وتصبح عنده حالة من الأنس والارتباط الإلهي ؟


الجواب: لا، الحال مختلف ففي حالة انفصام الشخصية تكون حالتان مختلفتان لشخصيتين مختلفتين تتناوبان ؛ تذهب إحداهما وتأتي الأخرى، أما علاقة الحياة الطيبة بحياة الدنيا الظاهرة هي علاقة الظاهر بالباطن لا تحل إحداهما محل الأخرى بل كلاهما تجريان في نفس الوقت، وكلتاهما ظرف للتأثير والتأثر في نفس الوقت، قد نلاحظ أن هناك نوع من الشبه بين مرض انفصام الشخصية وبين حالة الحياة الطيبة مع الحياة الدنيا، لكن هذا الشبه لا يعني أن كل ما في المثال الأول ينطبق على المثال الثاني، فقد تنشأ بعض الظواهر نشأة صحيحة سليمة، وأخرى تكون لها نشأة مرضية وغير سليمة، فانفصام الشخصية حالة مرضية تصيب الإنسان، أما الإدراك الأعلى والأسمى للوجود الذي أسميناه بالحياة الطيبة فهي الحالة السليمة والصحيحة ، لإنها مبنية على إدراك الحقائق الحقة لا على التخيلات، ويمكنكم أن تبحثوا عن التشابه والاختلاف بين الحياتين . ولكننا هنا سننظر إلى بعض الجوانب الأخرى و سنأخذ بعض الروايات لنستفيد معنى أوضح وأجلى لما أسميناه بالعلاقة بين الظاهر والباطن .
قال الله تعالى في حديث قدسي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: قَسَّمْتُ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ بَيْني وَبَيْنَ عَبْدِي، فِنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سأَلَ. إِذَا قَالَ الْعَبْدُ ﴿ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ﴾ قَالَ الله جَلَّ جَلاَلُهُ: بَدَأ عَبدِي باسْمِي وَحَقٌّ عَلَيَّ أنْ اُتَمِّمَ لَهُ اُمُورَهُ وَاُبارِكَ لَهُ فِي أحوَالِهِ. فَإذا قَالَ: ﴿ الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ قَالَ اللهُ جَلَّ جلالُهُ: حَمَدَنِي عَبدِي وَعَلِمَ أَنَّ النِعَمَ الَّتِي لَهُ مِنْ عِنْدِي، وَأَنَّ اْلبَلايَا الَّتِي دَفَعْتُ عَنْهُ فبِتَطَوُّلِي، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي أُضِيفُ لَهُ إلى نِعَمِ الدُّنْيَا نِعَمَ الآخِرَةِ، وَاَدْفَعُ عَنْهُ بَلاَيَا الآخِرَةِ كَمَا دَفَعْتُ عَنْهُ بَلاَيَا الدُّنْيَا. وَإِذَا قَالَ: ﴿ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ﴾ قَالَ الله جَلَّ جَلاَلُهُ: شَهِدَ لِي عَبْدِي أَنِّي اَلرَّحْمنُ الرَّحِيمُ، أُشْهِدُكُمْ لأُوَفِّرَنَّ مِنْ رَحْمَتِي حَظَّهُ وَلأُجْزِلَنَّ مِنْ عَطَائِي نَصِيبَهُ. فَإِذَا قَالَ: ﴿ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ قَالَ الله تَعالى: أُشهِدُكُمْ كَمَا اعْتَرَفَ بِأَنِّي أَنَا مَالِكُ يَوْمِ الدِّينِ لأُسَهِّلَنَّ يَوْمَ الْحِسابِ حِسَابَهُ، وَلأَتَقَبَّلَنَّ حَسَنَاتِهِ، وَلأَتَجَاوَزَنَّ عَنْ سَيِّئاتِهِ. فَإِذَا قَالَ: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: صَدَقَ عَبْدِي، إِيَّايَ يَعْبُدُ أُشْهِدُكُمْ لأُثِيبَنَّهُ عَلَى عِبَادَتِهِ ثَوَاباً يَغْبِطُهُ كُلُّ مَنْ خَالَفَهُ في عِبَادَتِهِ لي. فَإِذَا قَالَ: ﴿ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ قَالَ اللهُ تَعالى: بِيَ اسْتَعَانَ عَبْدِي، وَإلَيَّ اِلْتَجَأَ، أُشْهِدُكُمْ لأُعِينَنَّهُ عَلى أمْرِهِ، ولأُغيثَنَّهُ فِي شَدَائِدِهِ وَلآخُذَنَّ بِيَدِهِ يَوْمَ نَوَائِبِهِ. فَإِذَا قَالَ: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ﴾ إلى آخر السّورة قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ وَقَد اسْتَجَبْتُ لِعَبْدِي وَأَعْطَيتُهُ مَا أَمَّلَ وَآمَنْتُهُ مِمَّا مِنْهُ وَجِلَ" بحار الأنوار
فنلاحظ في هذه الرواية أن كل كلمة في سورة الفاتحة لها جوابها الخاص والمباشر، وأثرها وثوابها ليس متوقف على فترة زمانية معينة بل الثواب والأثر مستمر بعد موت الإنسان وفي قبره وعند قيام الحساب ، فإن القانون القائل: (إن لكل فعل ردة فعل) يكون حقيقة سارية في طاعات الله سبحانه وتعالى، هذه الرواية ذكرت سورة الفاتحة، وتوجد رواية أخرى عن الإمام الباقر (ع) يقول: (إِنَّ المُؤَمِّنَ لِيَخْرُجْ إِلَى أَخِيهِ يَزُورَهُ، فَيُوَكِّلُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ مُلَّكًا فَيَضَعُ جَنَاحًا فِي الأَرْضِ، وَجَنَاحًا فِي السَّمَاءِ يظله، فَإِذَا دَخَلَ إِلَى مَنْزِلِهِ نَادَاهُ الجَبَّارُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَيُّهَا العَبْدُ المُعْظَمُ لِحَقِّي المُتَّبَعُ لِآثَارِ نَبِيِّي، حَقّ عَلَى إعظامك، سَلِّنِي أُعْطِكَ، اُدْعُنِي أَجُبُّكَ، أَسْكُتُ أَبْتَدِئُكَ، فَإِذَا اِنْصَرَفَ شِيعَةُ المُلْكِ يظله بِجَنَاحِهِ حَتَّى يَدْخُلُ إِلَى مَنْزِلِهِ، ثُمَّ يُنَادِيهُ تُبَارِكُ وَتَعَالَى: أَيُّهَا العَبْدُ المُعْظَمُ لِحَقَّيْ حَقّ عَلَى إِكْرَامُكَ، قَدْ أَوْجَبَتْ لَكَ جَنَّتَيْ وشفعتك فِي عُبَّادِي) (٣).. أصول الكافي / جامع السعادات. وفي الحديث القدسي ( إن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى داود : يا داودُ ، أبلِغ أهلَ أرضي أنّي حَبيبُ مَن أحَبَّني ، وجَليسُ مَن جالَسَني ، ومُؤنِسٌ لِمَن أنِسَ بِذِكري ، وصاحِبٌ لِمَن صاحَبَني ، ومُختارٌ لِمَنِ اختارَني ، ومُطيعٌ لِمَن أطاعَني. ما أحَبَّني أحَدٌ أعلَمُ ذلِكَ يَقيناً مِن قَلبِهِ إلّا قَبِلتُهُ لِنَفسي ، وأحبَبتُهُ حُبّاً لا يَتَقَدَّمُهُ أحَدٌ مِن خَلقي. مَن طَلَبَني بِالحَقِّ وَجَدَني ، ومَن طَلَبَ غَيري لَم يَجِدني. فَارفُضوا ـ يا أهلَ الأَرضِ ـ ما أنتُم عَلَيهِ مِن غُرورِها ، وهَلُمّوا إلى كَرامَتي ومُصاحَبَتي ومُجالَسَتي ومُؤانَسَتي ، وأنَسوا بي اُؤانِسكُم واُسارِع إلى مَحَبَّتِكُ ). مسكن الفؤاد.
و عَنْ الباقِر (عَلَيْهِ السَلَامُ) قَالَ: أَنَّ اللّه تَعَالَى لِيَأْمُرَ مُلَّكًا فَيُنَادَى كُلَّ لَيْلَةٍ جُمْعَةُ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ إِلَى آخَرِهِ: أَلَّا عَبْدُ مُؤْمِن يَدْعُوَنِي لِآخِرَتِهِ وَدَّنَّيَاه قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ فَأَجِيبهُ؟ أَلَا عَبْدُ مُؤْمِن يَتُوبُ إِلَيَّ مِنْ ذُنُوبِهُ قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ فَأَتُوبُ عَلَيْهُمْ أَلَّا عَبْدُ مُؤْمِن قَدْ قَتَّرَتْ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَسْأَلُنِي الزِّيَادَةُ فِي رِزْقِهِ قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ فَأَزِيدُهُ وَأُوسِعُ عَلَيْهِ؟ أَلَا عَبْدُ مُؤْمِن سقيم فَيَسْأَلُنِي أَنْ أَشْفِيَهُ قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ فَأُعَافِيهُ؟ أَلَا عَبْدُ مُؤْمِن مَغْمُومٌ مَحْبُوسٌ يَسْأَلُنِي أَنْ أُطَلِّقَهُ مِنْ حَبْسِهِ وَأُفَرِّجُ عَنْهِ قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ فَأُطَلِّقُهُ وَأُخَلِّي سَبِيلَهُ؟ أَلَا عَبْدُ مُؤْمِن مَظْلُومٌ يَسْأَلُنِي أَنْ آخُذَ لَهُ بظلامته قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ فَاِنْتَصَرَ لَهُ وَآخَذَ بظلامته؟ قَالَ: فَلَا يَزَالُ يُنَادِي حَتَّى يَطْلَعُ الفَجْرُ. مفاتيح الجنان
المُطلع على الروايات يصل إلى درجة الاطمئنان أن لكل ذكر أو فعل بل لكل كلمة أثر حقيقي واقعي، ولو كنا نسلم تسليمًا قلبيًا إيمانيًا تامًا بحقيقة هذه الأمور لأدركنا هذا الأثر وعلمنا به أشد من علمنا بما نراه ونسمعه حسيًا لأن ما نراه أو نسمعه ربما يصيبه الخلل وعدم الدقة، وهذه الأخبار والروايات عن طريق الصادقين عن الله سبحانه وتعالى فهي عين الحقيقة الحقة التي لا تشتمل على الباطل، فلو فتحت عقولنا وقلوبنا لعلمنا علماً أقوى من السمع والبصر الحسيين .
أيها المؤمن هل تدرك ما يقع في هذا الكون وهذا العالم ؟
حينما يتوجه الإنسان المؤمن بقلبه المخلص إلى الله وهو يردد ( يا رب يا رب يا رب ) هل يدرك الآثار الكونية أو التحولات التي تحدث في عالم الوجود نتيجة لهذا الدعاء، هل ندرك الخيرات التي تطرد وتتابع في هذا العالم بدعاء المؤمنين وإخلاصهم وتوجههم لله سبحانه وتعالى، أي أثر كوني يحدث ؟ وأي رحمة تنزل ؟ هذه الأيادي إذا امتدت صاغرة وذليلة وطلبت من الله التوبة والمغفرة، إذا امتدت لله سائلة له من فيض رحمته وبركاته، أي أبواب جنات تُفتح وأي جنات تُشيد؟!
كل هذا حقيقة أحق مما نراه ونسمعه . نعم هو أمرغائب عنا ولا ندركه بحواسنا، ولكنه في الحقيقة أمر تكويني وحدث واقعي يجري حولنا في هذا الوجود ونحن لا نشعر به .

صفات الحياة الطيبة

الصفة الأولى: (إدراك الظاهر والباطن)
الحياة الطيبة استشعار وتعايش مع هذه الحقائق الغائبة عنا، وهذا ما سميناه بالظاهر والباطن قال تعالى: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)الروم: 7، الإنسان الذي لا يتمسك ولا يأخذ بما ورد من أخبار الحق عن طريق أهل الحق فإنه إنما يدرك ظاهرًا من الحياة الدنيا وأما باطنها فهو محجوب عنه.
الصفة الثانية: (إدراك الحق والنور)
الحياة الطيبة نور إذا ما قورنت بالحياة الدنيا قال تعالى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) البقرة: 257، الإنسان الذي يدرك أن كل أمر هو بيد الله فسيعيش إدراكًا حقيقيًا للوجود، بعكس ذلك الإنسان الذي يرى أن الأشياء هي المعطية والمانعة والرازقة وهي التي تملك السعادة وتهبها، وتملك أسباب الأمن والرجاء و الشقاء .
الإنسان المؤمن يعلم أن الله هو السبب الحقيقي وراء كل حادث يحدث، ويدرك أن هذه الأسباب التي يراها هي وسائط لهذا التأثير، وأن صاحب الرزق والعطاء والغنى هو الله وأن ماعداه ما هو إلا وسيلة لظهور ذلك الأثر، إذا حقت هذه النظرة يكون الإنسان كمن يرى بنور الحقيقة فلا يعتمد على أوهامه وتقديراته بل يُقَيّم الأشياء بالتقييم الإلهي الربّاني الصحيح وشتان بين هاتين النظرتين، فإذا نسب الإنسان الأمور إلى ربها الحقيقي وهو الله عز وجل فلا يرى فيها إلا رحمة الله وكرمه.
الوارد أن الإمام الحسين (ع) في يوم عاشوراء كان كلما ازدادت المحنة والشدة كلما ازداد وجهه تلألأ ونورًا، الإمام الحسين (ع) لا يرى في الأشياء حاجبًا عن سببها الحقيقي وهو الله، الإمام في عين ما يرى أن هذا الجيش يريد أن يفتك به وبأهل بيته فهو يرى الجمال ويد القدرة الإلهية في إجراء الأحداث وظهورها، إن هذا الذي ينزل به هو ظهور لحكمة الله وقدرته، فحين شعوره بالعطش وشدة حرارة الشمس في ذلك اليوم فإنه يرى فيها جمال الله ورحمته فلا شيء يستطيع أن يقف في وجه إدراكات الإمام الحسين (ع).
ونحن أيضا كلما وقع أمامنا حدث من الأحداث فإنه يكون حاجبًا إذا تأثرنا وتفاعلنا معه فقط، أما واقع الحال فأن وراء كل سبب سببًا أعظم، وراء كل الأسباب قدرة الله، ووراء كل حادث تفسير، وتفسير كل شيء هي أسماء الله وصفاته.
فلو كنا نرى ما نراه بالوسيلة والطريقة التي أرادنا أن نرى بها أهل الحق لرأينا في كل شيء وفي كل حدث جمال الله ولطفه ورحمته، ولهذا يمكننا أن نفهم ما قالته زينب (ع) التي تنطق بلسان الإمام الحسين (ع) وأبيها (ع) حينما قال لها ذلك الطاغية: أرأيت صنع الله فيكم ؟
قالت: ما رأيت إلا جميلاً، هذا ليس مبالغةً ولا نوعًا من الآداب اللفظية، بل لإن زينب (ع) درجت على خطى جدها وأبيها وأمها وأخيها فهي حقيقة لم تر من الأحداث والأشياء حولها إلا جمال الله، وهذا لا ينفي أن السيدة زينب (ع) ترى الأشياء كما هي في عالم الحس، ولكن أيضا ترى من خلالها قدرة الله وحكمته وجماله وكرمه وعطاءه، ولهذا فإن ما يحدث أمامها لا تراه إلا دليلًا ومؤثرًا على إرادة الله. فلا يغيب عن عيني الحسين(ع) ولا عن عيني زينب (ع) قدرة الله ورحمته وكرمه وهذا ما أردنا أن نستفيده من الآية: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) البقرة: 257، الذي ينظر بالنظرة القريبة السطحية فقط فإنه إنما يرى ظلمة تحجبه عن الحقيقة، نسأل الله بحق محمد وآل بيته أن يقطع عن بصائرنا سحاب الظلمات وينير قلوبنا بنور معرفته.

والحمد لله رب العالمين.

البقية تأتي
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 06-12-2017, 06:07 AM
فاطمة محمد فاطمة محمد غير متواجد حالياً
Member
 
تاريخ التسجيل: Apr 2017
المشاركات: 34
افتراضي الذكر والحياة الطيبة ( سلسلة دروس لسماحة الشيخ : عبد المحسن النمر )

الدرس الخامس:
الفرق بين الحياة الدنيا والحياة الطيبة
في الدرس الماضي أشرنا إلى الفروقات الأساسية التي تحدد العلاقة بين الحياة الدنيا والحياة الطيبة وهي:

النقطة الأولى: (الباطن والظاهر)
إن الحياة الطيبة هي حقيقة الحياة الدنيا وباطنها؛ فالحياة الدنيا هي ظاهر ما نعيشه والحياة الطيبة هي الباطن بالنسبة لمن يعيشها، واستدللنا على ذلك بالروايات التي يستفاد منها أن أثر التوجه إلى الله وذكره يقع في الحياة الدنيا لا محالة، و نضيف إلى الأدلة الماضية هذا الدعاء الذي نقرأه كل يوم في شهر رجب (يا مَنْ يَمْلِكُ حَوائِجَ السّائِلينَ، و يَعْلَمُ ضَميرَ الصّامِتينَ، لِكُلِّ مَسْأَلَة مِنْكَ سَمْعٌ حاضِرٌ وَ جَوابٌ عَتيدٌ) مفاتيح الجنان ، فالله عز وجل يسمع سؤال كل سائل ويُجيبه إجابة حاضرة حية وليست مستقبلية مؤجلة.

النقطة الثانية: (النور والظلام)
إن الحياة الطيبة كالنور والحياة الدنيا كالظلام، قال تعالى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) البقرة: 257

النقطة الثالثة: (القوة والضعف -الأرقى والأدنى)
من المميز لهاتين الحياتين الفرق من جهة الشدة والضعف في الحياة، لتوضيح هذا الأمر نقيس حياة بعض الموجودات إلى بعضها الآخر ونحاول أن نجد المميزات بينها، مالفرق بين حياة الحيوان ذي الخلية الواحدة مثلًا وبين الحيوان الأتم والأكمل؟
إن الحيوانات الأرقى من الحيوان ذي الخلية الواحدة درجة الحياة فيها أشد وأكمل من درجة الحياة في الحيوان ذي الخلية الواحدة، وإدراك الحيوان ذو الخلية الواحدة أضعف وكذلك إرادته أضعف؛ وما يتفرع عن هذين الأمرين من أحاسيس أضعف أيضًا، الحيوان الذي يكون إدراكه أقوى و كذلك إرادته أقوى وأشد يكون أكثر تطورًا في حياته وإدراكاته؛ وبالتالي أحاسيسه من خوف وهلع وبغض واضطراب أو من محبة وأنس وانشراح أقوى وأشد، لذا نجد أن درجة الحياة بين هذين المخلوقين تختلف.
وكذلك لو قارنا بين درجة حياة الحيوان وحياة الإنسان نجد أن هذه القاعدة أيضًا تنطبق فالإنسان يدرك أمورًا ويعلم ويتعرف على أمور أوسع وأكثر بكثير مما يدركه ويعلمه الحيوان؛ وبالتالي فمدركاته أكثر وإرادته أقوى وأشد وأحاسيسه التي تتفرع عن ذلك أقوى وأشد.
ومن هنا يمكن أن نطبق هذا المقياس على الفارق بين الحياة الدنيا والحياة الطيبة، فلو قسنا ذلك لوجدنا أن الفارق بينهما ليس فقط على النحو الذي يتميز به الإنسان عن الحيوان بل هو أرقى وأشد، الإنسان الذي يعيش الحياة الطيبة يرى الذي يعيش الحياة الدنيا أصغر وأدون مما يرى الإنسان العادي الحشرات والبهائم والحيوانات التي لا تملك إحساسًا إنسانيًا؛ والدليل على ذلك قول الله تعالى: (أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)الأعراف: 179، فالفارق بين الذاكر والغافل أشد من الفارق بين الإنسان والحيوان، الآية تقول أن أولئك كالأنعام بل هم أضل.
الحيوان لا يدرك ما في عالم الإنسان ومايمتاز به من سعادة ولذة ومعارف راقية، وكذلك الإنسان الذي ينحصر في الدنيا الظاهرة فهو لا يدرك ما يدركه الإنسان الذي قد انفتح قلبه على الحياة الطيبة من لذة وسعادة، فكما أننا لا نعتد بما تحوزه النملة من لذة وسعادة، ولا نرى قيمةً أو اعتبارًا لما عند الحشرة الحقيرة من أحاسيس، فكذلك الإنسان الذي يعيش حياة طيبة لا يرى قيمةً أو اعتبارًا لما لدى أهل الحياة الدنيا - المحصورون فيها - من سعادة أو ألم.
(وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) العنكبوت64، الحياة الطيبة أقرب وأشبه لطبيعة الدار الآخرة مما هي للحياة الدنيا، صحيح أن الحياة الطيبة لا تبلغ الدار الآخرة ولا تملك سعتها ولكنها القاعدة والأساس لحياة الآخرة، أما إذا قورنت الحياة الطيبة بالحياة الآخرة فإنها موت لا أثر لها أبدًا، فالحياة الطيبة حيث شابهت واستمدت من الحياة الآخرة فهي الحيوان ولو بنحو جزئي .
الفارق أحيانًا بين أمرين قد يصل إلى درجة يكاد يكون فيه الأدون والأصغر لا اعتناء له بتاتًا، الفارق بين الحياة الدنيا بالمقياس الصحيح أحيانًا إذا قورن إلى الحياة الطيبة يكون كالنار بالنسبة للجنة، لو عايشنا ما في الحياة الطيبة لكان من الجدير بنا أن نعيش باكين صارخين على ما فقدناه في تلك الحياة، يقول الإمام علي (ع) في دعاء كميل: ( فَهَبْني يا اِلـهى وَسَيِّدِي وَمَوْلايَ وَرَبّي صَبَرْتُ عَلى عَذابِكَ فَكَيْفَ اَصْبِرُ عَلى فِراقِكَ، وَهَبْني (يا اِلـهي) صَبَرْتُ عَلى حَرِّ نارِكَ فَكَيْفَ اَصْبِرُ عَنِ النَّظَرِ اِلى كَرامَتِكَ) مفاتيح الجنان، إن فراق الله إذا قورن بلقاء الله يكون أشدّ من العذاب هكذا نفهم من كلام الأمير (ع) في الدعاء.
لمعرفة هذا التمايز والمقارنة نضرب المثال التالي : لو عاش إنسان في حالة طبيعية بل حسنة في أمر معاشه وعياله وملك من وسائل العيش ما يجعل حياته مستقرة ورأى فيها الأنس والانشراح والاطمئنان فإنه يجد السعادة في هذه الحياة، ولنفترض أنه فارق عياله وأهله وبلده وكل ما يملك لسبب ما وانتقل إلى نوع من العيش أرغد وأجمل وأكمل وارتبط بأهل وعيال أجمل بأضعاف مضاعفة من الحالة السابقة التي كان يعيشها، فإن هذا الإنسان لو عاد إلى حالته السابقة بعد أن ارتبط بهذه الحالة الجديدة لربما أصبح ما كان يراه معهم من سعادة إلى شقاء، وما كان يشعر به في السابق من اطمئنان يعده الآن اضطرابًا وضعفًا وفقرًا وحاجة. في السابق حيث لم يكن قد تعرف على هذه الحياة الجديدة الأتم والأكمل كان راضيًا مطمئنًا، والآن حينما انفتحت له هذه الحياة الجديدة بأفقها الواسع الرحيب والجميل فإنه لم يعد يرى حياته السابقة إلا شقاء فإذا فارق حياته الجديدة فإنه ربما يقضي أيامه ولياليه نادمًا باكيًا.
هذا المثال قد يقرب لنا المقصود من كلام أمير المؤمنين (ع): ( فَبِعِزَّتِكَ يا سَيِّدى وَمَوْلايَ اُقْسِمُ صادِقاً لَئِنْ تَرَكْتَني ناطِقاً لَأَضِجَّنَّ اِلَيْكَ بَيْنَ اَهْلِها ضَجيجَ الاْمِلينَ وَلَأَصْرُخَنَّ اِلَيْكَ صُراخَ الْمَسْتَصْرِخينَ، وَلَأَبْكِيَنَّ عَلَيْكَ بُكاءَ الْفاقِدينَ، وَلًأُنادِيَنَّكَ اَيْنَ كُنْتَ يا وَلِيَّ الْمُؤْمِنينَ ) مفاتيح الجنان، الإمام علي (ع) لا يتحدث عن عذاب الآخرة ( النار ) كما نتصور بل يتحدث عن الفراق.
الإمام زين العابدين (ع) كان يبكي ويدعو الله بدرجة تحار فيها العقول، هذه الدنيا التي ولو بدرجة ضئيلة ضعيفة تحجب زين العابدين (ع) - لو صح لنا أن نقول هذا الكلام - عن تلك الحياة وهذا سبب بكاء الإمام زين العابدين (ع ) .

الفارق الرابع: (الاطمئنان والاضطراب)
من الفوارق التي تحدد لنا شكل وطبيعة الحياة الطيبة هي أن الحياة الدنيا حياة اضطراب ونكد وكبد، والحياة الطيبة حياة اطمئنان وطيبة وصفاء، مع ملاحظة أن الحياة الطيبة ليست حياة راكدة ومستقرة، فكما أن الحياة الدنيا متغيرة وجارية، كذلك الحياة الطيبة متغيرة ومتطورة ومنتقلة من حال إلى حال، لكن الفرق بينهما أن الحياة الدنيا تغوص في الاضطراب والنكد والحياة الطيبة هي حياة اطمئنان: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) الرعد: 28، فهي متغيرة وجارية من اطمئنان إلى اطمئنان أشد وأقوى، ومن أنس إلى أنس أتم، ومن راحة ومحبة وصفاء إلى راحة ومحبة وصفاء أكمل، فالحياة الطيبة ليست راكدة، يقول السجاد (ع) واصفًا لهذه الحياة: ( أَللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ دَأْبُهُمُ الارْتِياحُ إلَيْكَ وَالْحَنِينُ، وَدَهْرُهُمُ الزَّفْرَةُ وَالأَنِينُ، جِباهُهُمْ سَاجِدَةٌ لِعَظَمَتِكَ، وَعُيُونُهُمْ ساهِرَةٌ فِي خِدْمَتِكَ، وَدُمُوُعُهُمْ سآئِلَةٌ مِنْ خَشْيَتِكَ، وَقُلُوبُهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحَبَّتِكَ، وَأَفْئِدَتُهُمْ مُنْخَلِعَةٌ مِنْ مَهابَتِكَ، يا مَنْ أَنْوارُ قُدْسِهِ لأَبْصارِ مُحِبِّيهِ رآئِقَةٌ، وَسُبُحاتُ وَجْهِهِ لِقُلُوبِ عارِفيهِ شآئِقَةٌ، يا مُنى قُلُوبِ الْمُشْتاقِينَ، وَيا غَايَةَ آمالِ الْمُحِبِّينَ أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبَّ كُلِّ عَمَل يُوصِلُنِي إلى قُرْبِكَ، وَأَنْ تَجْعَلَكَ أَحَبَّ إلَيَّ مِمَّا سِواكَ وَأَنْ تَجْعَلَ حُبِّي إيَّاكَ قآئِداً إلى رِضْوانِكَ، وَشَوْقِي إلَيْكَ ذآئِداً عَنْ عِصْيانِكَ، وَامْنُنْ بِالنَّظَرِ إلَيْكَ عَلَيَّ، وَانْظُرْ بِعَيْنِ الْوُدِّ وَالْعَطْفِ إلَيَّ، وَلا تَصْرِفْ عَنِّي وَجْهَكَ، وَاجْعَلْنِي مِنْ أَهْلِ الإِسْعادِ وَالْحُظْوَةِ عِنْدَكَ، يا مُجِيبُ، يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ ) مناجاة المحبين، هذه العبارات كل منها تتحدث عن حال وكمال يختلف عما تشير إليه العبارة الثانية، فهذه الألفاظ ليست متشابهة أو مترادفة كما يخطر لنا أحيانًا - فكما أن الإنسان غير المتخصص بالأحجار الكريمة لا يميز بين الدرة الغالية والحجر العادي الكريم - فنحن أيضًا لا ندرك التمايز والتغير والتعالي في هذه الحالات، نصفها أحيانًا أنها عبارات متشابهة وحالات متقاربة، لكن في الحقيقة لكل معنى من هذه المعاني أنهاره ومجاريه. لوعة المحبة والشوق إلى الله ورياض القرب والمكاشفة، شرائع المصفاة لكل منها درجة من درجات من الكمال والسعادة أسمى وأعلى وأكمل من التمايز بين الأحجار الكريمة.
إذن الحياة الطيبة هي انتقال من حال إلى حال و من كمال إلى أكمل، أما الحياة الدنيا فهي كما عهدناها متقلبة مضطربة لا يمكنك أن تنال منها سعادة إلا بأن تدفع قيمة تلك السعادة من وجودك وحياتك - إذا صح أن نسمي ما نناله فيها سعادة - لا تنال منها لذة إلا بفراق أخرى .
مثلا لو كان رجل ينتظر أن يرزقه الله ولدًا يكون له قرة عين، فإذا رزقه الله الولد وظهرت عليه عند الولادة علامات النجابة والفهم والإدراك وحسن السياسة والإدارة، بحيث أن هذا الطفل إذا كبر فإن أنواع المقامات والجاه سوف تتوفر له، فإن الأب يسعد لهذا الأمل والرجاء وهو يحسب السنين في انتظار أن يبلغ ابنه تلك المرحلة، وبلا شك فإنه لو انتبه لأدرك أن بلوغ طفله تلك المرحلة هو عين بلوغه هو درجات الضعف والعجز والشيب، ففي كل خطوة يخطوها الإنسان نحو تحصيل درجة من درجات الدنيا فإنه يخطو خطوة نحو العجز والضعف فيها، أما في الحياة الطيبة فكل خطوة يخطوها الإنسان نحو السعادة فإنها تفتح له بابًا إلى سعادة أعلى، السير في الحياة الطيبة سير باتجاه التكامل فقط.
إلى هنا نكون قد أعطينا ولو بصورة جزئية بعض المميزات والفوارق التي ترسم لنا صورة عن الحياة الطيبة.




الحمد لله رب العالمين

البقية تأتي
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 06-18-2017, 04:00 PM
فاطمة محمد فاطمة محمد غير متواجد حالياً
Member
 
تاريخ التسجيل: Apr 2017
المشاركات: 34
افتراضي لذكر والحياة الطيبة ( سلسلة دروس لسماحة الشيخ : عبد المحسن النمر )

الدرس السادس: الفناء والبقاء


قال تعالى: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ۖ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ ۚ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) الأنعام: 94

ذكرنا في الدرس السابق بأن هناك خمس مزايا توضح لنا معنى الحياة الطيبة وذلك من خلال المقارنة بين الحياة الدنيا والحياة الطيبة، وذكرنا أربع منها وهي:

1) أن الحياة الطيبة غير منفصلة زمانيًا أو وجوديًا عن الحياة الدنيا، بمعنى أن وجود الحياة الدنيا يكون في الظاهر والحياة الطيبة موجودة كباطن في تلك الحياة، قال تعالى: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) الروم: 7.

2) أن الحياة الطيبة هي نور بينما الحياة الدنيا ظلام، قال تعالى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) البقرة: 257.

3) إن الفرق بين الحياة الدنيا والحياة الطيبة في مادة الحياة كالفرق بين الشدة والضعف، قال تعالى: (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ) العنكبوت: 64، صحيح أن الآية تتكلم عن الدار الآخرة إلا أن الحياة الطيبة لها من مزايا تلك الحياة ومن صفاتها ما يجعلنا نستنتج أن الحياة الدنيا هي أدون درجات الحياة، والحياة الطيبة هي أسمى وأعلى وأشد حياتيًا.
كمثال على ذلك، الحيوان ذو الخلية الواحدة له حياة والحيوان الأرقى من ذي الخلية الواحدة كالحيوان المتولد والذي له أجهزة متعددة له حياة، كما أن الإنسان له حياة أيضا ومع ذلك نلاحظ أن هناك تفاوتًا في قوة وضعف الحياة لدى هذه المخلوقات، فالحياة لدى الإنسان أضعاف مضاعفة من السعة والتأثر والتأثير من الحيوانات التي هي أدون منه، وهكذا المقارنة بين الحياة الدنيا والحياة الطيبة مع الفارق الكبير بين الحياتين.

4) الحياة الدنيا هي حياة التذبذب والاضطراب والكدر، والحياة الطيبة هي حياة الصفاء والاطمئنان والطيبة.

اليوم سنتحدث عن الفارق والميزة الخامسة بين الحياة الطيبة والحياة الدنيا وهي:

5) الفناء والبقاء:
بالنظر والتدبر في مجريات تحرك الإنسان منذ نشأته إلى حين وفاته نخرج بتصوّر عن طريقة تبلور الحياة الدنيا وتحركها من مرحلة إلى مرحلة أخرى، قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا ۚ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّىٰ مِنْ قَبْلُ ) غافر:67، وقال تعالى: ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ) الروم: 54، إن هذا التحول الذي نراه في بدن وقدرة وإمكانية الإنسان - كما يركز عليه القرآن الكريم - وهذا التطور والانتقال من حال إلى حال يتبعه تغير في نفس الإنسان ومتعلقاتها وأحوالها، النفس كائن متنقل سيال، في كل آن آن يكون للنفس ظرف تجتمع فيه مؤثرات ومزايا تختلف عن الظرف السابق وتكون مولدة وسائرة به إلى الظرف اللاحق.

لندع التفسير الفلسفي وما يذكرونه من تغيرات النفس وتطوراتها ونشأتها، ولننظر بالمنظار الإجتماعي المعهود الذي نراقب فيه أنفسنا ونراقب التغيرات التي تطرأ عليها نجد أننا نتعلق بثلاثة أنواع من الأمور:

الفئة الأولى:
الأشخاص أو ما نسميهم بالشفعاء الذين نتخيل أنهم مصدر لسعادتنا، من أُم حين يكون الإنسان صغيرًا، وأب وأخوة وأعوان وأصدقاء هؤلاء نشعر بأن لهم توسط في وصول السعادة والأنس والانشراح إلينا، ونرتبط بهؤلاء ارتباطًا يجعلنا متعلقين بهم، وأن ننسب أنواعًا من الخير و اللذة والسعادة لهذا النحو من الارتباط.

الفئة الثانية:
ما يمتلكه ويصبح تحت تصرفه من أشياء ومواد وأموال ووسائل معيشية يسعى جاهدًا لتوفيرها وامتلاكها وجعلها تحت إرادته ويرى فيها مصدر الخير له.
الفئة الثانية أقرب للإنسان من الفئة الأولى حيث أن الفئة الأولى أشخاصٌ يقعون تحت دائرة محبته وإرادته بدرجة ما، أما الممتلكات تقع تحت إرادة الإنسان بدرجة أشد.

الفئة الثالثة:
ما يراه الإنسان عائدًا إلى نفسه ويتصور أنها هي نفسه من قدرات ومواهب ومزايا - عين يبصر بها و أذن يسمع بها و عقل و إدراكات ومعارف - والقرآن الكريم يوضح لنا هذا الارتباط بين الإنسان وبين ما يتعلق به بقوله تعالى: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ )، فكل ما جمعته أيها الإنسان، وكل ما تعتقد أنه مصدر لسعادتك فقد تركته وجئتنا مفردًا ليس لك من هذه الأمور شيئًا: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ) وكذلك الأشخاص الذين كنتم تعتمدون عليهم لا نراهم معكم: ( وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ ۚ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ) هذه الآية القرآنية تشرح لنا حال الدنيا، ما كان مصدرًا للسعادة بحسب نظرك وبحسب تقديرك، وسعيت من أجله لم تعد الآن تملك شيئًا منه ومن أسباب التأثير والعطاء ( لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ) .
هذه هي الدورة الدنيوية مختصرة وملخصة كما تعبر عنها آيات أخرى، قال تعالى لفئة من الناس: ( أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا ) الأحقاف: 20، هذه الفئة التي لم تعرف الحياة الطيبة - فإن ما يعود للحياة الدنيا فقط كله زائل وفان - أما من كان له حياة طيبة قال تعالى عنهم: ( كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا ۙ قَالُوا هَٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ ) البقرة:25، فإن كل ما يوفره لنفسه في الحياة الطيبة هو عين ما سيبقى له وما سوف يتجدد له على نحو أوسع وأعلى في الآخرة.
الموت ليس هو الحد الزماني الذي يفصل بين الحياة الطيبة والحياة الدنيا، أي أن الدخول للحياة الطيبة وإيجادها لا يكون عن طريق الموت، بل إن الموت يكون كاشفًا للغطاء عن الحياة الطيبة، فما لم تكن لك حياة طيبة هنا في دار الدنيا لم تكن لك طيبات هناك، علينا أن ندرك أن حياتنا الطيبة هي التي نصنعها ونوجدها هنا في هذا الظرف وفي هذا الزمان، أما الموت لن يوجد لنا أمرًا لا أساس له، وإنما سيكشف لنا الأمر ويرفع الحجب ( لقد كشفنا عنك غطائك )
وكما قال تعالى: ( أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۚ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ) يونس:62-64، البشرى هي بلوغ الخبر بالسعادة الأبدية التي لا تنفصل ولا تنفك ، وهذه البشرى أوجدت وأثمرت في الحياة الدنيا.
الخلاصة : ما نريد أن نوضحه أن الحياة الدنيا موجودة والحياة الطيبة موجودة، لكن الحياة الدنيا باعتبارها حاجزًا ومانعًا يحجب عنا حقائق إدراك الحياة الطيبة فإن الموت يرفع سلطان الحياة الدنيا، حينها تنفتح على الإنسان حياة طيبة إن كان قد أوجد حياة طيبة وإلا فإنه يبقى في شقاء أبدي لا تتولد فيه ذرة من السعادة، عَنِ الْحَسَن بْنِ عَلِيٍّ عليه السلام أنَّهُ قَالَ: دَخَلَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ عليه السلام عَلَى مَرِيضٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَ هُوَ يَبْكِي وَ يَجْزَعُ مِنَ الْمَوْتِ. فَقَالَ لَهُ: "يَا عَبْدَ اللَّهِ تَخَافُ مِنَ الْمَوْتِ لِأَنَّكَ لَا تَعْرِفُهُ، أَ رَأَيْتَكَ إِذَا اتَّسَخْتَ وَ تَقَذَّرْتَ وَ تَأَذَّيْتَ مِنْ كَثْرَةِ الْقَذَرِ وَ الْوَسَخِ عَلَيْكَ، وَ أَصَابَكَ قُرُوحٌ وَ جَرَبٌ، وَ عَلِمْتَ أَنَّ الْغَسْلَ فِي حَمَّامٍ يُزِيلُ ذَلِكَ كُلَّهُ، أَ مَا تُرِيدُ أَنْ تَدْخُلَهُ فَتَغْسِلَ ذَلِكَ عَنْكَ؟ أَوَمَا تَكْرَهُ أَنْ لَا تَدْخُلَهُ فَيَبْقَى ذَلِكَ عَلَيْكَ"؟ قَالَ: بَلَى يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ. قَالَ: "فَذَاكَ الْمَوْتُ، هُوَ ذَلِكَ الْحَمَّامُ، وَ هُوَ آخِرُ مَا بَقِيَ عَلَيْكَ مِنْ تَمْحِيصِ ذُنُوبِكَ وَ تَنْقِيَتِكَ مِنْ سَيِّئَاتِكَ، فَإِذَا أَنْتَ وَرَدْتَ عَلَيْهِ وَ جَاوَزْتَهُ فَقَدْ نَجَوْتَ مِنْ كُلِّ غَمٍّ وَ هَمٍّ وَ أَذًى، وَ وَصَلْتَ إِلَى كُلِّ سُرُورٍ وَ فَرَحٍ". فَسَكَنَ الرَّجُلُ وَ اسْتَسْلَمَ وَ نَشِطَ، وَ غَمَّضَ عَيْنَ نَفْسِهِ وَ مَضَى لِسَبِيلِهِ. معاني الأخبار .
نلاحظ أن الإمام (عليه السلام ) يخاطب أحد أصحابه - المتمسك بالولاية وبرضا الله سبحانه - ويكشف له أن ما يجري عليه في الاحتضار للموت إنما هو زوال هذه العلاقات والارتباطات الباطلة الوهمية، بعدها سوف ترتفع كل آثار الوهم والاضطراب وعدم الاستقرار عنه وسيكون في صفاء وخلو من كل النقائص.
في الرواية أن ذلك الشخص حينما أبلغه الإمام (عليه السلام ) زال عنه الخوف والاضطراب وأسلم نفسه مطمئنًا راضيًا بالموت، بعدما وضّح له الإمام (عليه السلام ) ووضّح لنا أيضًا أن الموت هو المرحلة التي تتخلى عن دورها في الحياة وترتفع حجابات الدنيا، وبذلك يرتفع الإنسان إلى حياته الطيبة التي أعدّها لنفسه.
هذه هي الميزة الخامسة من مزايا المقارنة بين الحياة الطيبة والحياة الدنيا، وبهذا يكون موضوعنا عن الذكر في هذه المرحلة قد انتهى، فقد بدأنا بالحديث عن الذكر ومنه إلى الحياة الطيبة لبيان المواصفات المترتبة على موضوع الذكر أو كمقدمة لموضوع الذكر ونكتفي بذلك في هذه الدورة.


والحمد لله رب العالمين

رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 08:32 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, vBulletin Solutions Inc.