آثار حركة الإمام الحسين (ع لسماحة الشيخ عبدالمحسن النمر - الدرس الثالث
الدرس الثالث
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين، السلام عليك يا ثار الله وابن ثاره، السلام عليك يا أبا عبدالله وعلى الأرواح التي حلت بفنائك لعن أمة قتلتكم ولعن الله أمة ظلمتكم.
نستمع في شهر محرم عادة إلى أحداث يوم العاشر من المحرم، وربما نجهل الكثير من حركة الحسين عليه السلام؛ نظراً لتركيزنا على مجريات أحداث يوم العاشر حتى يكون لدينا تصورا عن ساحة المعركة وأشخاصها والأدوار والمهام التي قام بها أفراد المعسكرين، والغايات والأهداف التي كانوا يرجونها، ولكن علينا الاطلاع على تاريخ وطباع وخصائص الأمة الإسلامية والشخصيات الموجودة في تلك الفترة، فلا نستطيع إدراك دور شخص ذُكر في يوم العاشر بمجرد معرفة ما قام به في ذلك اليوم، فمن المناسب التعرف على وضع الأمة الإسلامية وحركة الحسين عليه السلام.
لما استولى معاوية على الحكم سنة أربعين من الهجرة ودامت له السلطة لمدة عشرين سنة، وتعد أطول فترة حكم بالنسبة لحكّام بني أمية، فالشام منذ فتحها ودخولها في سلطة الدولة الإسلامية محكومة من بني أمية، فقد حكمها يزيد بن أبي سفيان أولًا ثم أخوه معاوية بعده مباشرة،، هذا بخصوص الشام أما سائر البلدان الإسلامية كانت آخر ثلاثين سنة منها-قبل عاشوراء- محكومة أمويًا تقريبًا؛ لأن فترة خلافة أمير المؤمنين عليه السلام لمدة خمس سنوات كانت فترة اضطراب وحروب، وقبل أمير المؤمنين عليه السلام كان عثمان الأموي في حدود عشر سنوات هو الحاكم الفعلي على العالم الإسلامي، وبعد وفاة أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام عاد حكم معاوية لمدة عشرين سنة.
وإن معاوية قد هيأ الأمر لمبايعة ابنه يزيد قبل سنوات من وفاته، فلما هلك معاوية في سنة 60 للهجرة في شهر رجب كانت المسألة الأساسية التي واجهت يزيد هي ثتبيت حكمه ومواجهة من يتخوف منه عدم القبول ببيعته والخروج على حكمه، فكتب إلى عامله في المدينة: أنه عليك بأخذ البيعة بالخصوص من الحسين عليه السلام وعبدالله بن الزبير وعبدالله بن الخطاب، ولم يكن هذا الأخير يشكل خطرًا.
أما عبد الله بن الزبير فلم يبايع وذهب إلى مكة كما فعل الإمام الحسين عليه السلام، وكان ذلك في نفس الفترة وكلاهما وقف في وجه الحكومة اليزيدية، ولكن كانت نتائج حركتهما مختلفة تبعا لاختلاف شخصيتيهما.
عبدالله بن الزبير تمكن من تكّوين حكومة ودولة، وامتدت سلطة حكومته مكة والمدينة والكوفة والبصرة حتى بلغت دمشق -فقد عين له حاكماً في دمشق-، وكاد أن يستتب له الأمر لولا بعض نقاط الضعف في خصائص شخصيته.
أما الإمام الحسين عليه السلام فحركته ذات مدى قصير، ولمدة أشهر قليلة، ربما يصعب الآن أن نشير إلى نقاط التمايز بين هاتين الشخصيتين، ولكن نشير إلى نقطة واحدة فقط وهي إن عبدالله بن الزبير كان دوره مع وجود الحسين عليه السلام دورًا غير قابل للتطبيق والخروج؛ لأن قلوب الناس وتوجهاتهم وتطلعاتهم كانت مع الإمام الحسين عليه السلام لذلك لم يكن لابن الزبير أي صلاحية ليقوم بالدعوة لنفسه مع وجود الإمام الحسين عليه السلام.
وقد اختلف أسلوب حركتيهما اختلافا جذريا واتجه كل منهما اتجاها مختلفا، لكن بحثنا في مسألة فكريه ثقافية وليس من جهة تاريخية أو لتوضيح الغايات التي كان يريد أن يحققها الإمام الحسين عليه السلام أو الزبير، الحسين عليه السلام استدعاه حاكم المدينة من طرف يزيد وأمره بالمبايعة فلم يقبل ولم يبايع وخرج إلى مكة وبقي فيها شهر شعبان ورمضان وشوال إلى بداية ذي الحجة، وفي بداية هذه الفترة كانت تأتيه رسائل من معظم رؤساء القبائل الكوفية ليخرج إليهم، إلا أن نظرة أهل الخبرة والمعرفة والموازين العقلانية المعروفة المعهودة بين الناس كانت كلها تدل على أن خروج الإمام الحسين عليه السلام لن يؤدي إلى الإطاحة بالدولة الأموية.
والملاحظ أن الذين نصحوا الإمام الحسين عليه السلام كلهم تحدثوا بنفس اللهجة، وإن نتيجة خروجه اعليه السلام وما يتأمله من أهل الكوفة أمر لن يتحقق، فأسباب النصر والغلبة والإطاحة بالدولة الأموية غير متوفرة، ونشير لبعض الأمثلة:
الأول: عبدالله بن جعفر، فقد نصحه بعدم الخروج وسعى في أن يستحصل له على أمان من والي المدينة الذي كان أكثر عقلانية من يزيد، حيث أنه أراد أن يعطي الإمام عليه السلام الأمان للبقاء في المدينة لكن الإمام عليه السلام لم يقبل منهما.
الثاني: محمد بن الحنفية، أصر على الإمام بعدم الخروج للعراق، وأشار عليه بالتوجه إلى اليمن إذا كان مُصرًا على الخروج حتى يستتب له الأمر.
الثالث: عبدالله بن العباس، والوارد أنه ألح على الإمام الحسين عليه السلام مرة بعد أخرى، ووصل به الأمر أن يستعمل كل ما يملكه من وسائل تثبيط وإعاقة للحسين عليه السلام عن الخروج، فذهب إليه وقال له: يا أبا عبد الله أأنت عازم على الخروج إلى العراق، فقال الحسين عليه السلام: نعم، فقال له ابن عباس: والله لولا أن أخاف أن يجتمع الناس حولنا لأخذت برأسك ومنعتك من الخروج.
كان الأمر جليا وواضحا عند عامة الناس، بل يكاد يجمعون على أن الحركة لن تؤتي ثمرتها، لكن الإمام الحسين عليه السلام كانت له مقاييسه ونظرته التي لا يدركها هؤلاء.
إننا حينما نتتبع الشخصيات التي دارت في مدار كربلاء ربما نستطيع القول أنه لم يدرك أحدًا مغزى حركة الإمام الحسين عليه السلام باستثناء العباس وزينب عليهما السلام وقلة من الأشخاص، والملاحظ أنه من الصعب على الحسين عليه السلام أن يشرح الأبعاد للعامة، وقد كان عامة الناس ينظرون إلى أن النصر هو الغلبة الظاهرية والإطاحة بالحكم، أما الحسين عليه السلام فقد كان يرى أن معنى النصر والغلبة أبعد وأعمق من ذلك بكثير، فقد كان يعلم بتبعات حركته ولم يخف أو ينف ذلك؛ لكنه رأى من خلال إدراكه الرباني الإلهي مالا يراه الناس، رأى أن سكوته ورضاه وقبوله بحركة يزيد وحكومته نهاية للإسلام والدين، فلو قبل وسكت لانتهى الإسلام ولفظ آخر أنفاسه في سنة 60 -61 هـ.
نتوقف هنا لبحث الجانب الثقافي والفكري، نعيش اليوم أطروحات ومصطلحات ثقافية تشبه إلى حدٍ ما تم طرحه لتثبيط الحسين عليه السلام، وللتوضيح تطرح في زماننا مسألة الوسطية والاعتدال، فيقال عن فكر ما، أنه فكر معتدل وآخر فكر متطرف، وأن الإسلام دين الوسطية والاعتدال، وإن اتخاذ موقف ما يسمى تطرفا، ويطلق على أصحابه المتطرفين، ويبدو أن هذه الفكرة أُتقنت بحيث أننا نجد أكثر الناس مقتنعين بأن الإسلام هو دين الوسطية والاعتدال لا دين التطرف.
وهذا أسلوبٌ وطرحٌ ثقافي يختزن في باطنه الكثير من الغش والخداع والتزوير، وسوف نحاول الإشارة لهذه المسألة، إن كثيرا من الأخوة من أهل الإيمان والمعرفة لا يستطيعون التمييز بين الأطروحة الصادقة والأطروحة المخادعة الماكرة التي ربما ظاهرها ناعم ولكن في باطنها السم الزعاف.
والوسطية بالمعنى المقصود: هو أن يتخذ الإنسان موقفا لا هو من أهل التشدد لهذا الطرف ولا من التشدد لذاك الآخر.
إذا أردنا أن نحدد لنا موقفاً أو مسألة من المسائل ونتخذ فيها قرارا نبحث عن الناس أين يقفون وكيف يقيمون هذه المسألة وما يرون فيها، فلا نتبع الذاهبين جهة اليمين ولا الذاهبين في الجهة المقابلة، وإنما نقف في الوسط، وأصبح الميزان المطبق الآن هو أن تعرف أين يقف الناس أو الأكثرية منهم، فتأخذ موقفاً وطريقا وسطا مقبولاً، ونجد هذا المبدأ معمولًا به عند الناس في كثير من المسائل.
فهل الإسلام هو دين الوسطية، وأن نرى موقف الناس ما هو ثم نتخذ طريق الوسط ؟ الجواب أن هذا هو موقف عبدالله بن عمر بن الخطاب، وقد شكل نموذجا واضحا جليا في هذا المعنى، كان شخصا يميل إلى التنسك والعبادة والبعد عن الخوض في نصرة أحد، ، فهو لم يبايع يزيدًا في أول الأمر، وإنما قال أنا مع الناس، أيضاً قبلها لم يبايع أمير المؤمنين عليه السلام الذي كان يشكل طرفا في حرب الجمل وعائشة وطلحة والزبير في الطرف الآخر، هو لم يقف مع أي من الطرفين، ولم ينصر أحدًا منهم فهو يمثل معنى الوسطية التي مطلوب منا أن نتخذها في زمننا هذا.
اليوم نجد الناس يقولون لا نذهب مع أهل الشمال ولا اليمين، وإنما نقف موقف الوسط وهذه الفكرة كثيرة الانتشار، مثلًا في جانب العقائد وحينما يدور الحوار بالانتماء لمذهب معين في الاعتقاد بالأئمة الطاهرين عليهم السلام المطلوب منا أن نتخذ موقفا وسطا لا نغالي في تأيد مذهب معين أو جماعة معينة، وإنما نتخذ الموقف الوسط، وهذا الأمر يتكرر في جانب العقائد والسلوك فيُطلب أن لا تقف لوحدك وإنما انظر للناس إذا ذهبوا إلى أمر فخذ أنت جانب الوسط.
وحتى نوضح المسألة نرجع للقرآن والإمام الحسين عليه السلام وننظر، هل القرآن أمرنا بالتوسط بهذا المعنى، هل الحسين عليه السلام اتخذ موقفا وسطا، يقول الله تعالى: (( يا أيها الذين أمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ))(1) ويقول: (( و إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ))(2) أول ما نلحظه في مقياس القرآن أنه لا تعطي قيمة لموقف الآخرين أو رأي الأكثرية منهم، أو أن ترى موقف الناس ثم تأخذ موقفا وسطًا، ويوجهنا القرآن أن موقف الناس ليس هو القائد والموجه والميزان للحق والباطل، يقول تعالى: (( فماذا بعد الحق إلا الضلال ))(3) القرآن يرشدنا أن الميزان هو ميزان العقل والمنطق والحجة والبرهان والنص الإلهي وأما ميزان مواقف الناس أو كثرتهم أو قلتهم في أي جهة فليس دليلا على الموقف السليم، بل الآيات تحدثت عن الأكثرية بصورة غير مادحة.
إذن القرآن يحثنا لمعرفة الحق والباطل، لمعرفة اتخاذ القرار في المواقف، بأن لا نعتني بمسألة الوسطية، ولا نعط قيمة لرأي الأكثرية وأن ميزان الحق هو اتباع الحجة الثابتة سواء أيدها الآخرين أولم يؤيدوها.
ربما يخطر في بالنا أن الإسلام هو دين الشدة، باعتبار أنه لا يرى عناية ولا اعتبارا للأخذ بالوسطية، لنلاحظ أن هناك مساحتين وجانبين نبحث فيهما، فعندما نبحث عن معرفة الحق والباطل وتكون الغاية التمييز بينهما لا يكون للأكثرية أو الوسطية ميزان أو قيمة، أما حينما يكون الأمر في مسألة هداية الناس وتوجيههم والأخذ بيدهم للحق يأتي ميزان الرفق والمحبة والرحمة والشفقة والحوار والاعتدال وإعطاء الآخر أحقية بيان وجهة نظره، الله تعالى يعلمنا أن دعوة الناس له يجب أن تكون بأسلوب وسط ومقبول للنفوس، وهذا فرق بينه وبين معنى الوسط والوسطية الذي يطرح الآن في الساحة، لاحظوا كيف تم الخلط بين المعنيين وشوهت صورة الحق باعتبار أنه دعوة للتطرف، وتم الأخذ بيد الناس للضعف والوهن في دينهم باعتبار أن هذا هو الاعتدال، إذن لتوضيح هذه الصورة نقول: أنه في جانب البحث عن الحقيقة وفي جانب حركة المؤمن للسير لله والتمسك بيد الفوز والفلاح وتمييز الحق عن الباطل فلا تعتني برأي أحد إلا إذا كان قائما على الحجة والدليل والبرهان القاطع، وليس باعتبار أنه رأي الأكثرية، وأما في جانب التعامل مع الآخرين بل حتى مع النفس ودعوتها لله والعبادة ليكن المنهج الرفق والتلطف، وهكذا يعلمنا القرآن‘ فال تعالى: " (( ولتكونوا أمة وسطا))(4).
إن التميز بين المنهج الذي نتبعه في البحث عن الحق وإدراك الحقائق وبين المنهج الذي نتبعه في تربية أنفسنا وساحة الحوار مع الآخرين والدعوة لله ففي هذه الساحة نحن مأمورون بالرفق ورعاية الطبع الإنساني وأخذ النفس بما تتقبله ولا ننفرها؛ لأن هذا خلاف الحكمة والدعوة لله .
وحينما نعود إلى الإمام الحسين عليه السلام نرى هذا الأمر جليا واضحا فلم يتأثر بالموقف السائد في العالم الإسلامي، فقد كانت السمة الغالبة على المجتمع هي الضعف والسكوت والخوف من سلطة وحكومة معاوية ويزيد، فلم ينظر عليه السلام إلى هذه الأكثرية التي خضعت وجعلت الميزان في اتباع الحق هو الغلبة والمكنة والقوة والكثرة، وفي نفس الوقت أخذ الأمة بأجمل وأفضل أسلوب قبلته نفوسهم وانجذبت حوله طباعهم، بحيث رأوا فيما أقدم عليه الحسين عليه السلام عين الإيمان والتضحية والدعوة لله، ورأوا فيما قام به الظالمون في مواجهة الحسين عليه السلام التجبر والظلم والطغيان، وبهذا حقق الإمام الحسين عليه السلام الهدف الذي تحرك من أجله والذي كان يخفى على كثير من أهل الرأي والبصيرة إن لم نقل جميعهم عدا من كان لهم علاقة خاصة بالإمام عليه السلام واستطاع استيعاب دعوة الإمام الحسين وحركته عليه السلام، وبهذا لا نجد أحدا يصف الحسين عليه السلام وما جرى عليه بمثل من يدرك غاية الحسين عليه السلام، فحينما وقفت زينب عليه السلام في مجلس يزيد بن معاوية لم تنظر إلى ظاهر الأحداث والفترة الزمانية والغلبة الظاهرية التي تحققت لبني أمية، فخاطبت يزيد: يا يزيد كد كيدك واسعَ سعيك فو الله لا تمحو ذكرنا ولا تميت دعوتنا ما جمعك إلا بدد) (5) إن رسالة محمد صلى الله عليه وآله أحياها الحسين عليه السلام، لتبقى حية ترفرف في قلوب المؤمنين، ولتكون نهجًا ينهجه المؤمنين حتى يتم الله هذه الرسالة على يد مولانا صاحب العصر والزمان (( عجل الله فرجه ))، السلام على الحسين وعلى علي بنت الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين..
نسألكم خالص الدعاء...
________________________________________________________________
(1) (( يا أيها الذين أمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم )) سورة المائدة آية 105
(2) (( و إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله )) سورة الأنعام آية 116
(3) (( فماذا بعد الحق إلا الضلال )) سورة يونس آية 32
(4) (( ولتكونوا أمة وسطا)) سورة البقرة آية 143-
(5) خطبة السيدة زينب في الشام
|