الدرس السادس: الفناء والبقاء
قال تعالى: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ۖ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ ۚ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) الأنعام: 94
ذكرنا في الدرس السابق بأن هناك خمس مزايا توضح لنا معنى الحياة الطيبة وذلك من خلال المقارنة بين الحياة الدنيا والحياة الطيبة، وذكرنا أربع منها وهي:
1) أن الحياة الطيبة غير منفصلة زمانيًا أو وجوديًا عن الحياة الدنيا، بمعنى أن وجود الحياة الدنيا يكون في الظاهر والحياة الطيبة موجودة كباطن في تلك الحياة، قال تعالى: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) الروم: 7.
2) أن الحياة الطيبة هي نور بينما الحياة الدنيا ظلام، قال تعالى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) البقرة: 257.
3) إن الفرق بين الحياة الدنيا والحياة الطيبة في مادة الحياة كالفرق بين الشدة والضعف، قال تعالى: (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ) العنكبوت: 64، صحيح أن الآية تتكلم عن الدار الآخرة إلا أن الحياة الطيبة لها من مزايا تلك الحياة ومن صفاتها ما يجعلنا نستنتج أن الحياة الدنيا هي أدون درجات الحياة، والحياة الطيبة هي أسمى وأعلى وأشد حياتيًا.
كمثال على ذلك، الحيوان ذو الخلية الواحدة له حياة والحيوان الأرقى من ذي الخلية الواحدة كالحيوان المتولد والذي له أجهزة متعددة له حياة، كما أن الإنسان له حياة أيضا ومع ذلك نلاحظ أن هناك تفاوتًا في قوة وضعف الحياة لدى هذه المخلوقات، فالحياة لدى الإنسان أضعاف مضاعفة من السعة والتأثر والتأثير من الحيوانات التي هي أدون منه، وهكذا المقارنة بين الحياة الدنيا والحياة الطيبة مع الفارق الكبير بين الحياتين.
4) الحياة الدنيا هي حياة التذبذب والاضطراب والكدر، والحياة الطيبة هي حياة الصفاء والاطمئنان والطيبة.
اليوم سنتحدث عن الفارق والميزة الخامسة بين الحياة الطيبة والحياة الدنيا وهي:
5) الفناء والبقاء:
بالنظر والتدبر في مجريات تحرك الإنسان منذ نشأته إلى حين وفاته نخرج بتصوّر عن طريقة تبلور الحياة الدنيا وتحركها من مرحلة إلى مرحلة أخرى، قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا ۚ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّىٰ مِنْ قَبْلُ ) غافر:67، وقال تعالى: ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ) الروم: 54، إن هذا التحول الذي نراه في بدن وقدرة وإمكانية الإنسان - كما يركز عليه القرآن الكريم - وهذا التطور والانتقال من حال إلى حال يتبعه تغير في نفس الإنسان ومتعلقاتها وأحوالها، النفس كائن متنقل سيال، في كل آن آن يكون للنفس ظرف تجتمع فيه مؤثرات ومزايا تختلف عن الظرف السابق وتكون مولدة وسائرة به إلى الظرف اللاحق.
لندع التفسير الفلسفي وما يذكرونه من تغيرات النفس وتطوراتها ونشأتها، ولننظر بالمنظار الإجتماعي المعهود الذي نراقب فيه أنفسنا ونراقب التغيرات التي تطرأ عليها نجد أننا نتعلق بثلاثة أنواع من الأمور:
الفئة الأولى:
الأشخاص أو ما نسميهم بالشفعاء الذين نتخيل أنهم مصدر لسعادتنا، من أُم حين يكون الإنسان صغيرًا، وأب وأخوة وأعوان وأصدقاء هؤلاء نشعر بأن لهم توسط في وصول السعادة والأنس والانشراح إلينا، ونرتبط بهؤلاء ارتباطًا يجعلنا متعلقين بهم، وأن ننسب أنواعًا من الخير و اللذة والسعادة لهذا النحو من الارتباط.
الفئة الثانية:
ما يمتلكه ويصبح تحت تصرفه من أشياء ومواد وأموال ووسائل معيشية يسعى جاهدًا لتوفيرها وامتلاكها وجعلها تحت إرادته ويرى فيها مصدر الخير له.
الفئة الثانية أقرب للإنسان من الفئة الأولى حيث أن الفئة الأولى أشخاصٌ يقعون تحت دائرة محبته وإرادته بدرجة ما، أما الممتلكات تقع تحت إرادة الإنسان بدرجة أشد.
الفئة الثالثة:
ما يراه الإنسان عائدًا إلى نفسه ويتصور أنها هي نفسه من قدرات ومواهب ومزايا - عين يبصر بها و أذن يسمع بها و عقل و إدراكات ومعارف - والقرآن الكريم يوضح لنا هذا الارتباط بين الإنسان وبين ما يتعلق به بقوله تعالى: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ )، فكل ما جمعته أيها الإنسان، وكل ما تعتقد أنه مصدر لسعادتك فقد تركته وجئتنا مفردًا ليس لك من هذه الأمور شيئًا: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ) وكذلك الأشخاص الذين كنتم تعتمدون عليهم لا نراهم معكم: ( وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ ۚ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ) هذه الآية القرآنية تشرح لنا حال الدنيا، ما كان مصدرًا للسعادة بحسب نظرك وبحسب تقديرك، وسعيت من أجله لم تعد الآن تملك شيئًا منه ومن أسباب التأثير والعطاء ( لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ) .
هذه هي الدورة الدنيوية مختصرة وملخصة كما تعبر عنها آيات أخرى، قال تعالى لفئة من الناس: ( أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا ) الأحقاف: 20، هذه الفئة التي لم تعرف الحياة الطيبة - فإن ما يعود للحياة الدنيا فقط كله زائل وفان - أما من كان له حياة طيبة قال تعالى عنهم: ( كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا ۙ قَالُوا هَٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ ) البقرة:25، فإن كل ما يوفره لنفسه في الحياة الطيبة هو عين ما سيبقى له وما سوف يتجدد له على نحو أوسع وأعلى في الآخرة.
الموت ليس هو الحد الزماني الذي يفصل بين الحياة الطيبة والحياة الدنيا، أي أن الدخول للحياة الطيبة وإيجادها لا يكون عن طريق الموت، بل إن الموت يكون كاشفًا للغطاء عن الحياة الطيبة، فما لم تكن لك حياة طيبة هنا في دار الدنيا لم تكن لك طيبات هناك، علينا أن ندرك أن حياتنا الطيبة هي التي نصنعها ونوجدها هنا في هذا الظرف وفي هذا الزمان، أما الموت لن يوجد لنا أمرًا لا أساس له، وإنما سيكشف لنا الأمر ويرفع الحجب ( لقد كشفنا عنك غطائك )
وكما قال تعالى: ( أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۚ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ) يونس:62-64، البشرى هي بلوغ الخبر بالسعادة الأبدية التي لا تنفصل ولا تنفك ، وهذه البشرى أوجدت وأثمرت في الحياة الدنيا.
الخلاصة : ما نريد أن نوضحه أن الحياة الدنيا موجودة والحياة الطيبة موجودة، لكن الحياة الدنيا باعتبارها حاجزًا ومانعًا يحجب عنا حقائق إدراك الحياة الطيبة فإن الموت يرفع سلطان الحياة الدنيا، حينها تنفتح على الإنسان حياة طيبة إن كان قد أوجد حياة طيبة وإلا فإنه يبقى في شقاء أبدي لا تتولد فيه ذرة من السعادة، عَنِ الْحَسَن بْنِ عَلِيٍّ عليه السلام أنَّهُ قَالَ: دَخَلَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ عليه السلام عَلَى مَرِيضٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَ هُوَ يَبْكِي وَ يَجْزَعُ مِنَ الْمَوْتِ. فَقَالَ لَهُ: "يَا عَبْدَ اللَّهِ تَخَافُ مِنَ الْمَوْتِ لِأَنَّكَ لَا تَعْرِفُهُ، أَ رَأَيْتَكَ إِذَا اتَّسَخْتَ وَ تَقَذَّرْتَ وَ تَأَذَّيْتَ مِنْ كَثْرَةِ الْقَذَرِ وَ الْوَسَخِ عَلَيْكَ، وَ أَصَابَكَ قُرُوحٌ وَ جَرَبٌ، وَ عَلِمْتَ أَنَّ الْغَسْلَ فِي حَمَّامٍ يُزِيلُ ذَلِكَ كُلَّهُ، أَ مَا تُرِيدُ أَنْ تَدْخُلَهُ فَتَغْسِلَ ذَلِكَ عَنْكَ؟ أَوَمَا تَكْرَهُ أَنْ لَا تَدْخُلَهُ فَيَبْقَى ذَلِكَ عَلَيْكَ"؟ قَالَ: بَلَى يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ. قَالَ: "فَذَاكَ الْمَوْتُ، هُوَ ذَلِكَ الْحَمَّامُ، وَ هُوَ آخِرُ مَا بَقِيَ عَلَيْكَ مِنْ تَمْحِيصِ ذُنُوبِكَ وَ تَنْقِيَتِكَ مِنْ سَيِّئَاتِكَ، فَإِذَا أَنْتَ وَرَدْتَ عَلَيْهِ وَ جَاوَزْتَهُ فَقَدْ نَجَوْتَ مِنْ كُلِّ غَمٍّ وَ هَمٍّ وَ أَذًى، وَ وَصَلْتَ إِلَى كُلِّ سُرُورٍ وَ فَرَحٍ". فَسَكَنَ الرَّجُلُ وَ اسْتَسْلَمَ وَ نَشِطَ، وَ غَمَّضَ عَيْنَ نَفْسِهِ وَ مَضَى لِسَبِيلِهِ. معاني الأخبار .
نلاحظ أن الإمام (عليه السلام ) يخاطب أحد أصحابه - المتمسك بالولاية وبرضا الله سبحانه - ويكشف له أن ما يجري عليه في الاحتضار للموت إنما هو زوال هذه العلاقات والارتباطات الباطلة الوهمية، بعدها سوف ترتفع كل آثار الوهم والاضطراب وعدم الاستقرار عنه وسيكون في صفاء وخلو من كل النقائص.
في الرواية أن ذلك الشخص حينما أبلغه الإمام (عليه السلام ) زال عنه الخوف والاضطراب وأسلم نفسه مطمئنًا راضيًا بالموت، بعدما وضّح له الإمام (عليه السلام ) ووضّح لنا أيضًا أن الموت هو المرحلة التي تتخلى عن دورها في الحياة وترتفع حجابات الدنيا، وبذلك يرتفع الإنسان إلى حياته الطيبة التي أعدّها لنفسه.
هذه هي الميزة الخامسة من مزايا المقارنة بين الحياة الطيبة والحياة الدنيا، وبهذا يكون موضوعنا عن الذكر في هذه المرحلة قد انتهى، فقد بدأنا بالحديث عن الذكر ومنه إلى الحياة الطيبة لبيان المواصفات المترتبة على موضوع الذكر أو كمقدمة لموضوع الذكر ونكتفي بذلك في هذه الدورة.