الدرس الخامس:
الفرق بين الحياة الدنيا والحياة الطيبة
في الدرس الماضي أشرنا إلى الفروقات الأساسية التي تحدد العلاقة بين الحياة الدنيا والحياة الطيبة وهي:
النقطة الأولى: (الباطن والظاهر)
إن الحياة الطيبة هي حقيقة الحياة الدنيا وباطنها؛ فالحياة الدنيا هي ظاهر ما نعيشه والحياة الطيبة هي الباطن بالنسبة لمن يعيشها، واستدللنا على ذلك بالروايات التي يستفاد منها أن أثر التوجه إلى الله وذكره يقع في الحياة الدنيا لا محالة، و نضيف إلى الأدلة الماضية هذا الدعاء الذي نقرأه كل يوم في شهر رجب (يا مَنْ يَمْلِكُ حَوائِجَ السّائِلينَ، و يَعْلَمُ ضَميرَ الصّامِتينَ، لِكُلِّ مَسْأَلَة مِنْكَ سَمْعٌ حاضِرٌ وَ جَوابٌ عَتيدٌ) مفاتيح الجنان ، فالله عز وجل يسمع سؤال كل سائل ويُجيبه إجابة حاضرة حية وليست مستقبلية مؤجلة.
النقطة الثانية: (النور والظلام)
إن الحياة الطيبة كالنور والحياة الدنيا كالظلام، قال تعالى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) البقرة: 257
النقطة الثالثة: (القوة والضعف -الأرقى والأدنى)
من المميز لهاتين الحياتين الفرق من جهة الشدة والضعف في الحياة، لتوضيح هذا الأمر نقيس حياة بعض الموجودات إلى بعضها الآخر ونحاول أن نجد المميزات بينها، مالفرق بين حياة الحيوان ذي الخلية الواحدة مثلًا وبين الحيوان الأتم والأكمل؟
إن الحيوانات الأرقى من الحيوان ذي الخلية الواحدة درجة الحياة فيها أشد وأكمل من درجة الحياة في الحيوان ذي الخلية الواحدة، وإدراك الحيوان ذو الخلية الواحدة أضعف وكذلك إرادته أضعف؛ وما يتفرع عن هذين الأمرين من أحاسيس أضعف أيضًا، الحيوان الذي يكون إدراكه أقوى و كذلك إرادته أقوى وأشد يكون أكثر تطورًا في حياته وإدراكاته؛ وبالتالي أحاسيسه من خوف وهلع وبغض واضطراب أو من محبة وأنس وانشراح أقوى وأشد، لذا نجد أن درجة الحياة بين هذين المخلوقين تختلف.
وكذلك لو قارنا بين درجة حياة الحيوان وحياة الإنسان نجد أن هذه القاعدة أيضًا تنطبق فالإنسان يدرك أمورًا ويعلم ويتعرف على أمور أوسع وأكثر بكثير مما يدركه ويعلمه الحيوان؛ وبالتالي فمدركاته أكثر وإرادته أقوى وأشد وأحاسيسه التي تتفرع عن ذلك أقوى وأشد.
ومن هنا يمكن أن نطبق هذا المقياس على الفارق بين الحياة الدنيا والحياة الطيبة، فلو قسنا ذلك لوجدنا أن الفارق بينهما ليس فقط على النحو الذي يتميز به الإنسان عن الحيوان بل هو أرقى وأشد، الإنسان الذي يعيش الحياة الطيبة يرى الذي يعيش الحياة الدنيا أصغر وأدون مما يرى الإنسان العادي الحشرات والبهائم والحيوانات التي لا تملك إحساسًا إنسانيًا؛ والدليل على ذلك قول الله تعالى: (أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)الأعراف: 179، فالفارق بين الذاكر والغافل أشد من الفارق بين الإنسان والحيوان، الآية تقول أن أولئك كالأنعام بل هم أضل.
الحيوان لا يدرك ما في عالم الإنسان ومايمتاز به من سعادة ولذة ومعارف راقية، وكذلك الإنسان الذي ينحصر في الدنيا الظاهرة فهو لا يدرك ما يدركه الإنسان الذي قد انفتح قلبه على الحياة الطيبة من لذة وسعادة، فكما أننا لا نعتد بما تحوزه النملة من لذة وسعادة، ولا نرى قيمةً أو اعتبارًا لما عند الحشرة الحقيرة من أحاسيس، فكذلك الإنسان الذي يعيش حياة طيبة لا يرى قيمةً أو اعتبارًا لما لدى أهل الحياة الدنيا - المحصورون فيها - من سعادة أو ألم.
(وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) العنكبوت64، الحياة الطيبة أقرب وأشبه لطبيعة الدار الآخرة مما هي للحياة الدنيا، صحيح أن الحياة الطيبة لا تبلغ الدار الآخرة ولا تملك سعتها ولكنها القاعدة والأساس لحياة الآخرة، أما إذا قورنت الحياة الطيبة بالحياة الآخرة فإنها موت لا أثر لها أبدًا، فالحياة الطيبة حيث شابهت واستمدت من الحياة الآخرة فهي الحيوان ولو بنحو جزئي .
الفارق أحيانًا بين أمرين قد يصل إلى درجة يكاد يكون فيه الأدون والأصغر لا اعتناء له بتاتًا، الفارق بين الحياة الدنيا بالمقياس الصحيح أحيانًا إذا قورن إلى الحياة الطيبة يكون كالنار بالنسبة للجنة، لو عايشنا ما في الحياة الطيبة لكان من الجدير بنا أن نعيش باكين صارخين على ما فقدناه في تلك الحياة، يقول الإمام علي (ع) في دعاء كميل: ( فَهَبْني يا اِلـهى وَسَيِّدِي وَمَوْلايَ وَرَبّي صَبَرْتُ عَلى عَذابِكَ فَكَيْفَ اَصْبِرُ عَلى فِراقِكَ، وَهَبْني (يا اِلـهي) صَبَرْتُ عَلى حَرِّ نارِكَ فَكَيْفَ اَصْبِرُ عَنِ النَّظَرِ اِلى كَرامَتِكَ) مفاتيح الجنان، إن فراق الله إذا قورن بلقاء الله يكون أشدّ من العذاب هكذا نفهم من كلام الأمير (ع) في الدعاء.
لمعرفة هذا التمايز والمقارنة نضرب المثال التالي : لو عاش إنسان في حالة طبيعية بل حسنة في أمر معاشه وعياله وملك من وسائل العيش ما يجعل حياته مستقرة ورأى فيها الأنس والانشراح والاطمئنان فإنه يجد السعادة في هذه الحياة، ولنفترض أنه فارق عياله وأهله وبلده وكل ما يملك لسبب ما وانتقل إلى نوع من العيش أرغد وأجمل وأكمل وارتبط بأهل وعيال أجمل بأضعاف مضاعفة من الحالة السابقة التي كان يعيشها، فإن هذا الإنسان لو عاد إلى حالته السابقة بعد أن ارتبط بهذه الحالة الجديدة لربما أصبح ما كان يراه معهم من سعادة إلى شقاء، وما كان يشعر به في السابق من اطمئنان يعده الآن اضطرابًا وضعفًا وفقرًا وحاجة. في السابق حيث لم يكن قد تعرف على هذه الحياة الجديدة الأتم والأكمل كان راضيًا مطمئنًا، والآن حينما انفتحت له هذه الحياة الجديدة بأفقها الواسع الرحيب والجميل فإنه لم يعد يرى حياته السابقة إلا شقاء فإذا فارق حياته الجديدة فإنه ربما يقضي أيامه ولياليه نادمًا باكيًا.
هذا المثال قد يقرب لنا المقصود من كلام أمير المؤمنين (ع): ( فَبِعِزَّتِكَ يا سَيِّدى وَمَوْلايَ اُقْسِمُ صادِقاً لَئِنْ تَرَكْتَني ناطِقاً لَأَضِجَّنَّ اِلَيْكَ بَيْنَ اَهْلِها ضَجيجَ الاْمِلينَ وَلَأَصْرُخَنَّ اِلَيْكَ صُراخَ الْمَسْتَصْرِخينَ، وَلَأَبْكِيَنَّ عَلَيْكَ بُكاءَ الْفاقِدينَ، وَلًأُنادِيَنَّكَ اَيْنَ كُنْتَ يا وَلِيَّ الْمُؤْمِنينَ ) مفاتيح الجنان، الإمام علي (ع) لا يتحدث عن عذاب الآخرة ( النار ) كما نتصور بل يتحدث عن الفراق.
الإمام زين العابدين (ع) كان يبكي ويدعو الله بدرجة تحار فيها العقول، هذه الدنيا التي ولو بدرجة ضئيلة ضعيفة تحجب زين العابدين (ع) - لو صح لنا أن نقول هذا الكلام - عن تلك الحياة وهذا سبب بكاء الإمام زين العابدين (ع ) .
الفارق الرابع: (الاطمئنان والاضطراب)
من الفوارق التي تحدد لنا شكل وطبيعة الحياة الطيبة هي أن الحياة الدنيا حياة اضطراب ونكد وكبد، والحياة الطيبة حياة اطمئنان وطيبة وصفاء، مع ملاحظة أن الحياة الطيبة ليست حياة راكدة ومستقرة، فكما أن الحياة الدنيا متغيرة وجارية، كذلك الحياة الطيبة متغيرة ومتطورة ومنتقلة من حال إلى حال، لكن الفرق بينهما أن الحياة الدنيا تغوص في الاضطراب والنكد والحياة الطيبة هي حياة اطمئنان: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) الرعد: 28، فهي متغيرة وجارية من اطمئنان إلى اطمئنان أشد وأقوى، ومن أنس إلى أنس أتم، ومن راحة ومحبة وصفاء إلى راحة ومحبة وصفاء أكمل، فالحياة الطيبة ليست راكدة، يقول السجاد (ع) واصفًا لهذه الحياة: ( أَللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ دَأْبُهُمُ الارْتِياحُ إلَيْكَ وَالْحَنِينُ، وَدَهْرُهُمُ الزَّفْرَةُ وَالأَنِينُ، جِباهُهُمْ سَاجِدَةٌ لِعَظَمَتِكَ، وَعُيُونُهُمْ ساهِرَةٌ فِي خِدْمَتِكَ، وَدُمُوُعُهُمْ سآئِلَةٌ مِنْ خَشْيَتِكَ، وَقُلُوبُهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحَبَّتِكَ، وَأَفْئِدَتُهُمْ مُنْخَلِعَةٌ مِنْ مَهابَتِكَ، يا مَنْ أَنْوارُ قُدْسِهِ لأَبْصارِ مُحِبِّيهِ رآئِقَةٌ، وَسُبُحاتُ وَجْهِهِ لِقُلُوبِ عارِفيهِ شآئِقَةٌ، يا مُنى قُلُوبِ الْمُشْتاقِينَ، وَيا غَايَةَ آمالِ الْمُحِبِّينَ أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبَّ كُلِّ عَمَل يُوصِلُنِي إلى قُرْبِكَ، وَأَنْ تَجْعَلَكَ أَحَبَّ إلَيَّ مِمَّا سِواكَ وَأَنْ تَجْعَلَ حُبِّي إيَّاكَ قآئِداً إلى رِضْوانِكَ، وَشَوْقِي إلَيْكَ ذآئِداً عَنْ عِصْيانِكَ، وَامْنُنْ بِالنَّظَرِ إلَيْكَ عَلَيَّ، وَانْظُرْ بِعَيْنِ الْوُدِّ وَالْعَطْفِ إلَيَّ، وَلا تَصْرِفْ عَنِّي وَجْهَكَ، وَاجْعَلْنِي مِنْ أَهْلِ الإِسْعادِ وَالْحُظْوَةِ عِنْدَكَ، يا مُجِيبُ، يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ ) مناجاة المحبين، هذه العبارات كل منها تتحدث عن حال وكمال يختلف عما تشير إليه العبارة الثانية، فهذه الألفاظ ليست متشابهة أو مترادفة كما يخطر لنا أحيانًا - فكما أن الإنسان غير المتخصص بالأحجار الكريمة لا يميز بين الدرة الغالية والحجر العادي الكريم - فنحن أيضًا لا ندرك التمايز والتغير والتعالي في هذه الحالات، نصفها أحيانًا أنها عبارات متشابهة وحالات متقاربة، لكن في الحقيقة لكل معنى من هذه المعاني أنهاره ومجاريه. لوعة المحبة والشوق إلى الله ورياض القرب والمكاشفة، شرائع المصفاة لكل منها درجة من درجات من الكمال والسعادة أسمى وأعلى وأكمل من التمايز بين الأحجار الكريمة.
إذن الحياة الطيبة هي انتقال من حال إلى حال و من كمال إلى أكمل، أما الحياة الدنيا فهي كما عهدناها متقلبة مضطربة لا يمكنك أن تنال منها سعادة إلا بأن تدفع قيمة تلك السعادة من وجودك وحياتك - إذا صح أن نسمي ما نناله فيها سعادة - لا تنال منها لذة إلا بفراق أخرى .
مثلا لو كان رجل ينتظر أن يرزقه الله ولدًا يكون له قرة عين، فإذا رزقه الله الولد وظهرت عليه عند الولادة علامات النجابة والفهم والإدراك وحسن السياسة والإدارة، بحيث أن هذا الطفل إذا كبر فإن أنواع المقامات والجاه سوف تتوفر له، فإن الأب يسعد لهذا الأمل والرجاء وهو يحسب السنين في انتظار أن يبلغ ابنه تلك المرحلة، وبلا شك فإنه لو انتبه لأدرك أن بلوغ طفله تلك المرحلة هو عين بلوغه هو درجات الضعف والعجز والشيب، ففي كل خطوة يخطوها الإنسان نحو تحصيل درجة من درجات الدنيا فإنه يخطو خطوة نحو العجز والضعف فيها، أما في الحياة الطيبة فكل خطوة يخطوها الإنسان نحو السعادة فإنها تفتح له بابًا إلى سعادة أعلى، السير في الحياة الطيبة سير باتجاه التكامل فقط.
إلى هنا نكون قد أعطينا ولو بصورة جزئية بعض المميزات والفوارق التي ترسم لنا صورة عن الحياة الطيبة.
الحمد لله رب العالمين
البقية تأتي