الدرس الرابع: صفات الحياة الطيبة
(اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ۗ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) البقرة: 257
في الدرس الماضي أشرنا إلى أنه في نفس الظرف الذي نعيش فيه ( الحياة الدنيا ) توجد حياة ثانية أسميناها بالحياة الطيبة ، على ما يذكره بعض العلماء باستفاداتهم من الآيات القرآنية، وذكرنا أنّ في هذه الحياة الدنيا (المعتادة) توجد وسائل وتعريفات تحدد معنى الحي من الميت، وكذلك هناك مقاييس وتعريفات تحدد الحي من الميت في الحياة الطيبة.
ذكرنا أن الناس بالنسبة للحياة الطيبة ينقسمون إلى ثلاثة أقسام :
1) الأحياء وهم مصداق لهذه الآية القرآنية (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)النحل: 97.
2) الأموات الذين دفنوا وقبروا ولم يعد لهم رجاء أو أمل في هذه الحياة، قال تعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ ۖ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) فاطر: 22، فالجاحدين والكافرين في الحياة المعروفة والمعهودة ليسوا أمواتًا بل لهم دورهم وإدراكهم وأحاسيسهم في الحياة الدنيا، أما بالنسبة للحياة الطيبة فهم أموات بل هم في القبور.
3) السائرون في طريق الحياة وهم الذين لم يُدفنوا ولكنهم لم يبلغوا الدرجة التي تعطيهم صلاحية التأثير والانفعال التام في تلك الحياة وإنما بإيمانهم بالله وولايتهم لأهل الحق فإنهم يتحسسون رائحة تلك الحياة ويعيشون على أمل ورجاء بلوغ تلك الحياة الطيبة.
موقع الحياة الطيبة في حياتنا الدنيا :
اليوم نشير إلى صفات تلك الحياة الطيبة، هل هي على خلاف الحياة التي نعيشها بحيث أن الإنسان تكون له حياتان منفصلتان لا علاقة لأحدهما بالأخرى ؟
هل أن الإنسان الذي بلغ درجة تلك الحياة يعيش وقته منقسمًا إلى قسمين: قسم يتعامل ويعيش مع الحياة الدنيا وقسم يتعامل ويعيش مع الحياة الطيبة ؟
هل هي كمرض انفصام الشخصية بحيث إذا أصاب الإنسان أصبحت تمر به حالتان مختلفتان، يعيش في إحداهما بمواصفات وخصائص وطبائع معينة ويعيش في الحالة الثانية بطبائع ومواصفات مختلفة ؟ فقد يكون المصاب بالمرض مهندسًا مثلًا يعيش طبيعة معينة ومزاجًا وأحاسيسًا معينة ثم حين يصاب بذلك المرض وتظهر الآثار يصبح في حالة مختلفة وشخصية مختلفة ومزاج جديد وعلاقته تختلف عن حالته الأولى - هذا مما ذكره الأطباء وتحدثوا به، وكتبت عنه الجهات العلمية والقصصية - هل أن الحياة الطيبة مثل هذا النوع يعيش في الصباح في عمله ويؤثر ويتأثر بطبيعة معينة، ثم عندما يجن الليل مثلًا يتوجه لله وتصبح عنده حالة من الأنس والارتباط الإلهي ؟
الجواب: لا، الحال مختلف ففي حالة انفصام الشخصية تكون حالتان مختلفتان لشخصيتين مختلفتين تتناوبان ؛ تذهب إحداهما وتأتي الأخرى، أما علاقة الحياة الطيبة بحياة الدنيا الظاهرة هي علاقة الظاهر بالباطن لا تحل إحداهما محل الأخرى بل كلاهما تجريان في نفس الوقت، وكلتاهما ظرف للتأثير والتأثر في نفس الوقت، قد نلاحظ أن هناك نوع من الشبه بين مرض انفصام الشخصية وبين حالة الحياة الطيبة مع الحياة الدنيا، لكن هذا الشبه لا يعني أن كل ما في المثال الأول ينطبق على المثال الثاني، فقد تنشأ بعض الظواهر نشأة صحيحة سليمة، وأخرى تكون لها نشأة مرضية وغير سليمة، فانفصام الشخصية حالة مرضية تصيب الإنسان، أما الإدراك الأعلى والأسمى للوجود الذي أسميناه بالحياة الطيبة فهي الحالة السليمة والصحيحة ، لإنها مبنية على إدراك الحقائق الحقة لا على التخيلات، ويمكنكم أن تبحثوا عن التشابه والاختلاف بين الحياتين . ولكننا هنا سننظر إلى بعض الجوانب الأخرى و سنأخذ بعض الروايات لنستفيد معنى أوضح وأجلى لما أسميناه بالعلاقة بين الظاهر والباطن .
قال الله تعالى في حديث قدسي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: قَسَّمْتُ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ بَيْني وَبَيْنَ عَبْدِي، فِنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سأَلَ. إِذَا قَالَ الْعَبْدُ ﴿ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ﴾ قَالَ الله جَلَّ جَلاَلُهُ: بَدَأ عَبدِي باسْمِي وَحَقٌّ عَلَيَّ أنْ اُتَمِّمَ لَهُ اُمُورَهُ وَاُبارِكَ لَهُ فِي أحوَالِهِ. فَإذا قَالَ: ﴿ الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ قَالَ اللهُ جَلَّ جلالُهُ: حَمَدَنِي عَبدِي وَعَلِمَ أَنَّ النِعَمَ الَّتِي لَهُ مِنْ عِنْدِي، وَأَنَّ اْلبَلايَا الَّتِي دَفَعْتُ عَنْهُ فبِتَطَوُّلِي، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي أُضِيفُ لَهُ إلى نِعَمِ الدُّنْيَا نِعَمَ الآخِرَةِ، وَاَدْفَعُ عَنْهُ بَلاَيَا الآخِرَةِ كَمَا دَفَعْتُ عَنْهُ بَلاَيَا الدُّنْيَا. وَإِذَا قَالَ: ﴿ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ﴾ قَالَ الله جَلَّ جَلاَلُهُ: شَهِدَ لِي عَبْدِي أَنِّي اَلرَّحْمنُ الرَّحِيمُ، أُشْهِدُكُمْ لأُوَفِّرَنَّ مِنْ رَحْمَتِي حَظَّهُ وَلأُجْزِلَنَّ مِنْ عَطَائِي نَصِيبَهُ. فَإِذَا قَالَ: ﴿ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ قَالَ الله تَعالى: أُشهِدُكُمْ كَمَا اعْتَرَفَ بِأَنِّي أَنَا مَالِكُ يَوْمِ الدِّينِ لأُسَهِّلَنَّ يَوْمَ الْحِسابِ حِسَابَهُ، وَلأَتَقَبَّلَنَّ حَسَنَاتِهِ، وَلأَتَجَاوَزَنَّ عَنْ سَيِّئاتِهِ. فَإِذَا قَالَ: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: صَدَقَ عَبْدِي، إِيَّايَ يَعْبُدُ أُشْهِدُكُمْ لأُثِيبَنَّهُ عَلَى عِبَادَتِهِ ثَوَاباً يَغْبِطُهُ كُلُّ مَنْ خَالَفَهُ في عِبَادَتِهِ لي. فَإِذَا قَالَ: ﴿ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ قَالَ اللهُ تَعالى: بِيَ اسْتَعَانَ عَبْدِي، وَإلَيَّ اِلْتَجَأَ، أُشْهِدُكُمْ لأُعِينَنَّهُ عَلى أمْرِهِ، ولأُغيثَنَّهُ فِي شَدَائِدِهِ وَلآخُذَنَّ بِيَدِهِ يَوْمَ نَوَائِبِهِ. فَإِذَا قَالَ: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ﴾ إلى آخر السّورة قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ وَقَد اسْتَجَبْتُ لِعَبْدِي وَأَعْطَيتُهُ مَا أَمَّلَ وَآمَنْتُهُ مِمَّا مِنْهُ وَجِلَ" بحار الأنوار
فنلاحظ في هذه الرواية أن كل كلمة في سورة الفاتحة لها جوابها الخاص والمباشر، وأثرها وثوابها ليس متوقف على فترة زمانية معينة بل الثواب والأثر مستمر بعد موت الإنسان وفي قبره وعند قيام الحساب ، فإن القانون القائل: (إن لكل فعل ردة فعل) يكون حقيقة سارية في طاعات الله سبحانه وتعالى، هذه الرواية ذكرت سورة الفاتحة، وتوجد رواية أخرى عن الإمام الباقر (ع) يقول: (إِنَّ المُؤَمِّنَ لِيَخْرُجْ إِلَى أَخِيهِ يَزُورَهُ، فَيُوَكِّلُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ مُلَّكًا فَيَضَعُ جَنَاحًا فِي الأَرْضِ، وَجَنَاحًا فِي السَّمَاءِ يظله، فَإِذَا دَخَلَ إِلَى مَنْزِلِهِ نَادَاهُ الجَبَّارُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَيُّهَا العَبْدُ المُعْظَمُ لِحَقِّي المُتَّبَعُ لِآثَارِ نَبِيِّي، حَقّ عَلَى إعظامك، سَلِّنِي أُعْطِكَ، اُدْعُنِي أَجُبُّكَ، أَسْكُتُ أَبْتَدِئُكَ، فَإِذَا اِنْصَرَفَ شِيعَةُ المُلْكِ يظله بِجَنَاحِهِ حَتَّى يَدْخُلُ إِلَى مَنْزِلِهِ، ثُمَّ يُنَادِيهُ تُبَارِكُ وَتَعَالَى: أَيُّهَا العَبْدُ المُعْظَمُ لِحَقَّيْ حَقّ عَلَى إِكْرَامُكَ، قَدْ أَوْجَبَتْ لَكَ جَنَّتَيْ وشفعتك فِي عُبَّادِي) (٣).. أصول الكافي / جامع السعادات. وفي الحديث القدسي ( إن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى داود : يا داودُ ، أبلِغ أهلَ أرضي أنّي حَبيبُ مَن أحَبَّني ، وجَليسُ مَن جالَسَني ، ومُؤنِسٌ لِمَن أنِسَ بِذِكري ، وصاحِبٌ لِمَن صاحَبَني ، ومُختارٌ لِمَنِ اختارَني ، ومُطيعٌ لِمَن أطاعَني. ما أحَبَّني أحَدٌ أعلَمُ ذلِكَ يَقيناً مِن قَلبِهِ إلّا قَبِلتُهُ لِنَفسي ، وأحبَبتُهُ حُبّاً لا يَتَقَدَّمُهُ أحَدٌ مِن خَلقي. مَن طَلَبَني بِالحَقِّ وَجَدَني ، ومَن طَلَبَ غَيري لَم يَجِدني. فَارفُضوا ـ يا أهلَ الأَرضِ ـ ما أنتُم عَلَيهِ مِن غُرورِها ، وهَلُمّوا إلى كَرامَتي ومُصاحَبَتي ومُجالَسَتي ومُؤانَسَتي ، وأنَسوا بي اُؤانِسكُم واُسارِع إلى مَحَبَّتِكُ ). مسكن الفؤاد.
و عَنْ الباقِر (عَلَيْهِ السَلَامُ) قَالَ: أَنَّ اللّه تَعَالَى لِيَأْمُرَ مُلَّكًا فَيُنَادَى كُلَّ لَيْلَةٍ جُمْعَةُ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ إِلَى آخَرِهِ: أَلَّا عَبْدُ مُؤْمِن يَدْعُوَنِي لِآخِرَتِهِ وَدَّنَّيَاه قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ فَأَجِيبهُ؟ أَلَا عَبْدُ مُؤْمِن يَتُوبُ إِلَيَّ مِنْ ذُنُوبِهُ قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ فَأَتُوبُ عَلَيْهُمْ أَلَّا عَبْدُ مُؤْمِن قَدْ قَتَّرَتْ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَسْأَلُنِي الزِّيَادَةُ فِي رِزْقِهِ قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ فَأَزِيدُهُ وَأُوسِعُ عَلَيْهِ؟ أَلَا عَبْدُ مُؤْمِن سقيم فَيَسْأَلُنِي أَنْ أَشْفِيَهُ قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ فَأُعَافِيهُ؟ أَلَا عَبْدُ مُؤْمِن مَغْمُومٌ مَحْبُوسٌ يَسْأَلُنِي أَنْ أُطَلِّقَهُ مِنْ حَبْسِهِ وَأُفَرِّجُ عَنْهِ قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ فَأُطَلِّقُهُ وَأُخَلِّي سَبِيلَهُ؟ أَلَا عَبْدُ مُؤْمِن مَظْلُومٌ يَسْأَلُنِي أَنْ آخُذَ لَهُ بظلامته قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ فَاِنْتَصَرَ لَهُ وَآخَذَ بظلامته؟ قَالَ: فَلَا يَزَالُ يُنَادِي حَتَّى يَطْلَعُ الفَجْرُ. مفاتيح الجنان
المُطلع على الروايات يصل إلى درجة الاطمئنان أن لكل ذكر أو فعل بل لكل كلمة أثر حقيقي واقعي، ولو كنا نسلم تسليمًا قلبيًا إيمانيًا تامًا بحقيقة هذه الأمور لأدركنا هذا الأثر وعلمنا به أشد من علمنا بما نراه ونسمعه حسيًا لأن ما نراه أو نسمعه ربما يصيبه الخلل وعدم الدقة، وهذه الأخبار والروايات عن طريق الصادقين عن الله سبحانه وتعالى فهي عين الحقيقة الحقة التي لا تشتمل على الباطل، فلو فتحت عقولنا وقلوبنا لعلمنا علماً أقوى من السمع والبصر الحسيين .
أيها المؤمن هل تدرك ما يقع في هذا الكون وهذا العالم ؟
حينما يتوجه الإنسان المؤمن بقلبه المخلص إلى الله وهو يردد ( يا رب يا رب يا رب ) هل يدرك الآثار الكونية أو التحولات التي تحدث في عالم الوجود نتيجة لهذا الدعاء، هل ندرك الخيرات التي تطرد وتتابع في هذا العالم بدعاء المؤمنين وإخلاصهم وتوجههم لله سبحانه وتعالى، أي أثر كوني يحدث ؟ وأي رحمة تنزل ؟ هذه الأيادي إذا امتدت صاغرة وذليلة وطلبت من الله التوبة والمغفرة، إذا امتدت لله سائلة له من فيض رحمته وبركاته، أي أبواب جنات تُفتح وأي جنات تُشيد؟!
كل هذا حقيقة أحق مما نراه ونسمعه . نعم هو أمرغائب عنا ولا ندركه بحواسنا، ولكنه في الحقيقة أمر تكويني وحدث واقعي يجري حولنا في هذا الوجود ونحن لا نشعر به .
صفات الحياة الطيبة
الصفة الأولى: (إدراك الظاهر والباطن)
الحياة الطيبة استشعار وتعايش مع هذه الحقائق الغائبة عنا، وهذا ما سميناه بالظاهر والباطن قال تعالى: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)الروم: 7، الإنسان الذي لا يتمسك ولا يأخذ بما ورد من أخبار الحق عن طريق أهل الحق فإنه إنما يدرك ظاهرًا من الحياة الدنيا وأما باطنها فهو محجوب عنه.
الصفة الثانية: (إدراك الحق والنور)
الحياة الطيبة نور إذا ما قورنت بالحياة الدنيا قال تعالى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) البقرة: 257، الإنسان الذي يدرك أن كل أمر هو بيد الله فسيعيش إدراكًا حقيقيًا للوجود، بعكس ذلك الإنسان الذي يرى أن الأشياء هي المعطية والمانعة والرازقة وهي التي تملك السعادة وتهبها، وتملك أسباب الأمن والرجاء و الشقاء .
الإنسان المؤمن يعلم أن الله هو السبب الحقيقي وراء كل حادث يحدث، ويدرك أن هذه الأسباب التي يراها هي وسائط لهذا التأثير، وأن صاحب الرزق والعطاء والغنى هو الله وأن ماعداه ما هو إلا وسيلة لظهور ذلك الأثر، إذا حقت هذه النظرة يكون الإنسان كمن يرى بنور الحقيقة فلا يعتمد على أوهامه وتقديراته بل يُقَيّم الأشياء بالتقييم الإلهي الربّاني الصحيح وشتان بين هاتين النظرتين، فإذا نسب الإنسان الأمور إلى ربها الحقيقي وهو الله عز وجل فلا يرى فيها إلا رحمة الله وكرمه.
الوارد أن الإمام الحسين (ع) في يوم عاشوراء كان كلما ازدادت المحنة والشدة كلما ازداد وجهه تلألأ ونورًا، الإمام الحسين (ع) لا يرى في الأشياء حاجبًا عن سببها الحقيقي وهو الله، الإمام في عين ما يرى أن هذا الجيش يريد أن يفتك به وبأهل بيته فهو يرى الجمال ويد القدرة الإلهية في إجراء الأحداث وظهورها، إن هذا الذي ينزل به هو ظهور لحكمة الله وقدرته، فحين شعوره بالعطش وشدة حرارة الشمس في ذلك اليوم فإنه يرى فيها جمال الله ورحمته فلا شيء يستطيع أن يقف في وجه إدراكات الإمام الحسين (ع).
ونحن أيضا كلما وقع أمامنا حدث من الأحداث فإنه يكون حاجبًا إذا تأثرنا وتفاعلنا معه فقط، أما واقع الحال فأن وراء كل سبب سببًا أعظم، وراء كل الأسباب قدرة الله، ووراء كل حادث تفسير، وتفسير كل شيء هي أسماء الله وصفاته.
فلو كنا نرى ما نراه بالوسيلة والطريقة التي أرادنا أن نرى بها أهل الحق لرأينا في كل شيء وفي كل حدث جمال الله ولطفه ورحمته، ولهذا يمكننا أن نفهم ما قالته زينب (ع) التي تنطق بلسان الإمام الحسين (ع) وأبيها (ع) حينما قال لها ذلك الطاغية: أرأيت صنع الله فيكم ؟
قالت: ما رأيت إلا جميلاً، هذا ليس مبالغةً ولا نوعًا من الآداب اللفظية، بل لإن زينب (ع) درجت على خطى جدها وأبيها وأمها وأخيها فهي حقيقة لم تر من الأحداث والأشياء حولها إلا جمال الله، وهذا لا ينفي أن السيدة زينب (ع) ترى الأشياء كما هي في عالم الحس، ولكن أيضا ترى من خلالها قدرة الله وحكمته وجماله وكرمه وعطاءه، ولهذا فإن ما يحدث أمامها لا تراه إلا دليلًا ومؤثرًا على إرادة الله. فلا يغيب عن عيني الحسين(ع) ولا عن عيني زينب (ع) قدرة الله ورحمته وكرمه وهذا ما أردنا أن نستفيده من الآية: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) البقرة: 257، الذي ينظر بالنظرة القريبة السطحية فقط فإنه إنما يرى ظلمة تحجبه عن الحقيقة، نسأل الله بحق محمد وآل بيته أن يقطع عن بصائرنا سحاب الظلمات وينير قلوبنا بنور معرفته.
والحمد لله رب العالمين.
البقية تأتي