عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 06-02-2017, 01:13 AM
فاطمة محمد فاطمة محمد غير متواجد حالياً
Member
 
تاريخ التسجيل: Apr 2017
المشاركات: 34
افتراضي الذكر والحياة الطيبة ( سلسلة دروس لسماحة الشيخ : عبد المحسن النمر )

[SIZE="6"]
الدرس الثالث :
الذكر هو السبيل للحياة الطيبة


قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) الأنفال:24 .

ذكرنا في الدرس السابق أن السير إلى الكمال وإلى السعادة والغاية السامية هو سير وحركة من الغفلة للذكر، فكل غفلة هي خسران وشقاء وكل ذكر هو سعادة وفوز، والإنسان إذا تحرك من الغفلة إلى الذكر فإنه يسير من عالم الفناء والشقاء إلى عالم الفوز والفلاح.

وذكرنا أن الذكر والذاكرين على أربع مراحل:
الذكر اللفظي، والذكر الفعلي، والذكر الحالي، والذكر الذاتي، وفي كل طبقة من طبقات الذكر توجد أركان نحتاج إلى إدراكها واستيعابها لتعيننا على التحرك والانطلاق.

اليوم نشير إلى مادة قرآنية مهمة جدًا تعرضت لها آيات متعددة ويمكن أن نستفيد منها مفاهيم ومدركات غائبة عن أذهاننا ، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) الأنفال:24 تبين الآية المباركة الدعوة الإلهية المحمدية ، وهي إن الاستجابة لله هي باتباع الرسول صلى الله عليه وآله، والاستجابة للرسول صلى الله عليه وآله هي استجابة لله، وهذه الاستجابة هي لإحيائكم (لِمَا يُحْيِيكُمْ) .
والحياة ليست شيئًا واحدًا. فمفهومنا لمصطلح الحياة : هي الوجود - بصورة عامة وليس الإنسان فقط - الذي يملك الإدراك الصحيح والإرادة، والحي هو المدرك والمريد، ويتبع الإدراك والإرادة الفرح والسرور والأنس والبهجة والتمتع واللذة وسائر المشاعر الملائمة للنفس، ويتبعها أيضًا النكد والضيق والخوف والألم وسائر المشاعر غير الملائمة للنفس، هذا هو مصطلحنا ومفهومنا لمعنى الحياة .
فنحن نعتبر أنفسنا أحياء لكن الآية القرآنية تقول أن الرسول صلى الله عليه وآله يدعوكم إلى الحياة! (إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)
فما هي الحياة التي يدعونا إليها الرسول صلى الله عليه وآله ؟
الحياة التي ندركها ليست هي الحياة الوحيدة الموجودة، فهناك حياة أخرى لها فرحها وبهجتها وأنسها ومتعتها ولذائذها وأرزاقها وثمراتها غير ما تعودنا عليه وعرفناه!! .

قال تعالى: ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) النحل:97، أي أن من يستجيب للرسول صلى الله عليه وآله ويعمل صالحًا من ذكر أو أنثى - لأن دعوة الرسول صلى الله عليه وآله هي الإيمان والعمل الصالح – (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)، العلامة الطبطبائي في الميزان يلفت النظر إلى أن هذه الآية المباركة لم تقل فلنجعل حياته طيبة وإنّما (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) أي أن هذه الحياة التي تعرفونها وتعهدونها ليست هي المورد أو الظرف الذي يصلح أن يكون طيبا.

بتعبير آخر: لا يقصد من الآية أن الإنسان المؤمن الذي يعمل صالحًا فإن رزقه سيكون واسعًا، وشؤونه وأموره المادية ستكون أتم وأكمل وأطيب، بل إنه سيحيا غير هذه الحياة، كما أن الإنسان يوم ولد اكتسب حياة، فإنه إذا استجاب للرسول صلى الله عليه وآله وآمن وعمل صالحًا سوف يكتسب حياة أخرى أسمى وأعلى، وهي حياة طيبة .
إذا اقتصر نظرنا ومعرفتنا وإدراكنا على هذه الحياة التي نعيشها فليست هي إلا انتقال من نكد إلى نكد (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) البلد:4، ولن نخرج من النكد أبدًا (وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا) الإسرء:72 ، فإذا كنت تطلب الراحة والسعادة والمتعة عن طريق هذا الظرف الذي نسميه غالبًا حياة فأنت كالساعي إلى السراب (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ) النور :39، ما دمت لم تنتقل من ظرف هذه الحياة إلى الظرف الأوسع و الأكمل والأسمى الذي دعاك إليه رسول الله صلى الله عليه وآله فسوف تبقى في درك الشقاء.

أقسام الناس في الحياة الطيبة :
الناس بالنسبة للحياة الطيبة ينقسمون إلى ثلاثة أقسام :

الأحياء:
وهو القسم الذي أشارت إليه الآية: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) النحل :97
وهم الذين خلص إيمانهم وصلُحت أعمالهم، روي عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: ( إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ الذِّكْرَ جِلاءً لِلْقُلُوبِ تَسْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْوَقْرَةِ وَتُبْصِرُ بِهِ بَعْدَ الْعَشْوَةِ وَتَنْقَادُ بِهِ بَعْدَ الْمُعَانَدَةِ وَمَا بَرِحَ لِلَّهِ عَزَّتْ آلَاؤُهُ فِي الْبُرْهَةِ بَعْدَ الْبُرْهَةِ وَفِي أَزْمَانِ الْفَتَرَاتِ عِبَادٌ نَاجَاهُمْ فِي فِكْرِهِمْ وَكَلَّمَهُمْ فِي ذَاتِ عُقُولِهِمْ فَاسْتَصْبَحُوا بِنُورِ يَقَظَةٍ فِي الْأَبْصَارِ وَالْأَسْمَاعِ وَالْأَفْئِدَةِ يُذَكِّرُونَ بِأَيَّامِ اللَّهِ وَيُخَوِّفُونَ مَقَامَهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَدِلَّةِ فِي الْفَلَوَاتِ مَنْ أَخَذَ الْقَصْدَ حَمِدُوا إِلَيْهِ طَرِيقَهُ وَبَشَّرُوهُ بِالنَّجَاةِ وَمَنْ أَخَذَ يَمِيناً وَشِمَالًا ذَمُّوا إِلَيْهِ الطَّرِيقَ وَحَذَّرُوهُ مِنَ الْهَلَكَةِ وَكَانُوا كَذَلِكَ مَصَابِيحَ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ وَأَدِلَّةَ تِلْكَ الشُّبُهَاتِ وَإِنَّ لِلذِّكْرِ لَأَهْلًا أَخَذُوهُ مِنَ الدُّنْيَا بَدَلًا فَلَمْ تَشْغَلْهُمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْهُ يَقْطَعُونَ بِهِ أَيَّامَ الْحَيَاةِ وَيَهْتِفُونَ بِالزَّوَاجِرِ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ فِي أَسْمَاعِ الْغَافِلِينَ وَيَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ وَيَأْتَمِرُونَ بِهِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيَتَنَاهَوْنَ عَنْهُ فَكَأَنَّمَا قَطَعُوا الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَةِ وَهُمْ فِيهَا فَشَاهَدُوا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ فَكَأَنَّمَا اطَّلَعُوا غُيُوبَ أَهْلِ الْبَرْزَخِ فِي طُولِ الْإِقَامَةِ فِيهِ وَحَقَّقَتِ الْقِيَامَةُ عَلَيْهِمْ عِدَاتِهَا فَكَشَفُوا غِطَاءَ ذَلِكَ لِأَهْلِ الدُّنْيَا حَتَّى كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ مَا لَا يَرَى النَّاسُ وَيَسْمَعُونَ مَا لَا يَسْمَعُونَ فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ لِعَقْلِكَ فِي مَقَاوِمِهِمُ الْمَحْمُودَةِ وَمَجَالِسِهِمُ الْمَشْهُودَةِ وَقَدْ نَشَرُوا دَوَاوِينَ أَعْمَالِهِمْ وَفَرَغُوا لِمُحَاسَبَةِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى كُلِّ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ أُمِرُوا بِهَا فَقَصَّرُوا عَنْهَا أَوْ نُهُوا عَنْهَا فَفَرَّطُوا فيهَا وَحَمَّلُوا ثِقَلَ أَوْزَاِرِهمْ ظُهُورَهُمْ فَضَعُفُوا عَنِ الِاسْتِقْلَالِ بِهَا فَنَشَجُوا نَشِيجاً وَتَجَاوَبُوا نَحِيباً يَعِجُّونَ إِلَى رَبِّهِمْ مِنْ مَقَامِ نَدَمٍ وَاعْتِرَافٍ لَرَأَيْتَ أَعْلَامَ هُدًى وَمَصَابِيحَ دُجًى قَدْ حَفَّتْ بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ وَتَنَزَّلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَفُتِحَتْ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَأُعِدَّتْ لَهُمْ مَقَاعِدُ الْكَرَامَاتِ فِي مَقْعَدٍ اطَّلَعَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِيهِ فَرَضِيَ سَعْيَهُمْ وَحَمِدَ مَقَامَهُمْ يَتَنَسَّمُونَ بِدُعَائِهِ رَوْحَ التَّجَاوُزِ رَهَائِنُ فَاقَةٍ إِلَى فَضْلِهِ وَأُسَارَى ذِلَّةٍ لِعَظَمَتِهِ جَرَحَ طُولُ الْأَسَى قُلُوبَهُمْ وَطُولُ الْبُكَاءِ عُيُونَهُمْ لِكُلِّ بَابِ رَغْبَةٍ إِلَى اللَّهِ مِنْهُمْ يَدٌ قَارِعَةٌ يَسْأَلُونَ مَنْ لَا تَضِيقُ لَدَيْهِ الْمَنَادِحُ وَلَا يَخِيبُ عَلَيْهِ الرَّاغِبُونَ فَحَاسِبْ نَفْسَكَ لِنَفْسِكَ فَإِنَّ غَيْرَهَا مِنَ الْأَنْفُسِ لَهَا حَسِيبٌ غَيْرُكَ .) نهج البلاغة.

هؤلاء هم أهل الحياة الطيبة، إذا كنا نعتقد أن أولياء الله وأنبيائه والأئمة (عليهم السلام)، ومن أخلص في ولائه لهم وكان سيره وسلوكه تحت ولايتهم أنهم يعيشون مثل حياتنا، وأن أحاسيسهم ومشاعرهم مقتصرة - كأحاسيسنا ومشاعرنا - على هذه الأمور والمبادئ المادية من مسكن ومأكل ومشرب ومال و... إلخ ما نعده ذا شأن وذا قيمة فإننا بلا شك لم نعرفهم ولم ندرك شيئًا من مقامهم وشأنهم.
قال تعالى: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون) يونس :62، الآيات لا تقول أن أولياء الله في عالم الآخرة لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، بل تقول من يفوز بولاية الله ويكون تحتها فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون هنا، و سوف نعود إلى توضيح أكثر لهذه الحياة ولكن الآن نكتفي بالإشارة إلى أن الفئة الأولى هم الأحياء في هذه الحياة الطيبة.

الأموات :

هذه الفئة الثانية خلاف الفئة الأولى، قال تعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ ۖ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ) فاطر:22، هؤلاء يا رسول الله الذين كفروا بدينك، ولم يؤمنوا بالله وبرسوله (ص) فهم أموات في القبور، وهم يعيشون على ظهر الأرض إلا أنهم بالنسبة لهذه الحياة الطيبة الحقيقية أموات لا أمل في حياتهم، أفأنت تسمع من في القبور؟ ليس ميت فقط وإنما ميت في قبره، هؤلاء لا أمل في أن ينالوا شيئًا من هذه الحياة، قد كان لهم في فطرتهم مادة حية لكن بعنادهم وجحودهم لرسول الله ماتوا وأصبحوا في القبور، هؤلاء هم الطرف المقابل لأولياء الله والذين يعيشون في الحياة الطيبة.

السائرون نحو طريق الحياة :

هذه الفئة الثالثة لم تبلغ درجة الحياة الطيبة ولكنها في نفس الوقت لم تمت، فرائحة الحياة الطيبة تهب عليهم ونسيمها يصل إليهم، فإذا شملتهم الرحمة الإلهية والشفاعة المحمدية ودخلوا ضمن الولاية العلوية فإن كرم الله يفتح لهم هذه الحياة، ويجعل لهم فيها مسلكًا وطريقًا، لكن ليس لهم ضمان بالبقاء والاستمرار في الحياة بل - والعياذ بالله - قد يموت المرء من تلك الحياة بسوء أعماله وبسوء تصرفه بغروره وتكبره، قد يدركه الموت لأنه لم يعد صالحًا لتلك الحياة، يقول الإمام زين العابدين (ع): (إِلهِي نَفْسٌ أَعْزَزْتَها بِتَوْحِيدِكَ كَيْفَ تُذِلُّها بِمَهانَةِ هِجْرانِكَ) مناجاة الخائفين، الصحيفة السجادية.
إن في تلك الحياة حالات وتعليمات ومشاهد كما في هذه الحياة إلا أنها أسمى وأعلى وأتم وأكمل، نحن نسأل الله بحق المصطفى أن يصلي عليهم صلاة نامية كثيرة وأن يعجل لهم الفرج والنصر والعافية وأن يجعلنا ممن نحيا محياهم، فما هي حياتهم عليهم السلام ؟ هل نظرنا على المال والجاه والمكانة والمنزل والمسكن والعشيرة ؟
فإن رسول الله صلى الله عليه وآله عاش فقيرًا، وأمير المؤمنين عليه السلام عاش فقيرًا زاهدًا، والأئمة الطاهرين عليهم السلام لم ينالوا من هذه الخيرات الظاهرية في الدنيا شيئًا، فلماذا نطلب أن نعيش ونحيا محياهم ؟

الخلاصة :
أن هناك ظرف آخر يمكن أن يتاح لنا العيش فيه، ومن المفترض أن نتحرك ونسعى لنتعرف على هذه الحياة وننال منها.
إن الطريق لهذه الحياة يكون بالانتباه من الغفلة والارتباط بذكر الله، في الدرس القادم إن شاء الله سوف نبين أهمية الارتباط بهذه الحياة .

والحمد لله رب العالمين
البقية تأتي
رد مع اقتباس