الدرس الثاني : الذكر الذاتي
ذكرنا في الدرس السابق بعض المقدمات لموضوعنا وخلاصتها أن عبادة الله سبحانه هي الغاية الأسمى والأكمل، وأن هذه العبادة هي معرفة الله والتقرب إليه، وأن العمل الصالح يثبت ويرسخ هذه المعرفة وهذا الاعتقاد، وأن الطريق إلى الله والسير إليه سبحانه هو سير من الغفلة إلى الذكر، فالمبدأ الذي ننطلق و نتحرك منه هو حالة من الغفلة، وكمال الطريق لله ومنتهاه هو حالة الذكر.
وذكرنا أن للذكر أربع طبقات :
الطبقة الأولى: الذكر اللفظي.
الطبقة الثانية: الذكر الأفعالي.
الطبقة الثالثة: الذكر الأحوالي بحيث تكون حالة الإنسان حاله ذكرية.
الطبقة الرابعة : الذكر الذاتي.
قبل الانتقال لتفاصيل
الطبقة الرابعة ولندرك معناها سنذكر تمهيدًا لذلك من خلال الدعاء الوارد عن أهل البيت عليهم السلام ولننظر إليه نظرة التدبر، وابتداءً لابد أن نفهم أن الأدعية الواردة عن أهل البيت عليهم السلام هي تعاليم ومعارف علمية وروحية في آن معًا، وأنها ليست كأي نوع من أنواع المعارف المستقاة، وربما لا نجد لأدعية أهل البيت عليهم السلام شبيهًا إلا كتاب الله، فالقرآن هو كتاب الله النازل وأدعية أهل البيت عليهم السلام هي الكتاب الصاعد، ولهذا يجب أن يكون التعامل مع أدعية أهل البيت عليهم السلام بكيان الإنسان عقلًا وقلبًا.
لنأخذ هذا الدعاء - الذي يستحب قراءته في كل صباح ومساء مع تبديل لفظ أصبح بأمسى - ولنحاول الاستزادة العقلية والروحية منه: (
اَللَّهُمَّ أَصْبِحْ ظُلْمِي مَسَّتْجِيْرَا بِعَفْوِكَ وَأَصْبَحَتْ ذُنُوبُي مستجيرة بِمَغْفِرَتِكَ وَأَصْبِحْ خَوْفِي مَسَّتْجِيْرَا بِأمَانِكَ وَأَصْبِحْ فَقْرِي مَسَّتْجِيْرَا بِغِنَاكَ وَأَصْبِحْ ذُلِّي مَسَّتْجِيْرَا بِعِزِّكَ وَأَصْبِحْ ضُعْفِي مَسَّتْجِيْرَا بِقُوتِكَ وَأَصْبَحَ وَجْهِي البَالِيَ أَلِّفَانِي مَسَّتْجِيْرَا بِوَجْهِكَ الدَّائِمِ البَاقِي يَا كَائِنَا قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَيَا كَائِنًا بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ يَا مُكَوِّنُ كُلِّ شَيْءٍ صَلَّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَالِ مُحَمَّدًا وَاِجْعَلْ لِي مِنْ أَمْرِي فَرَجًا وَمَخْرَجًا وَاُرْزُقْنِي مِنْ حَيْثُ أَحْتَسِبُ وَمِنْ حَيْثُ لَا أَحْتَسِبُ) الباقيات الصالحات – تفسير القمي-
سنأخذ من هذا الدعاء ملاحظات تعود بالتمهيد لموضوعنا :
الأولى استمرارية ودوام الحاجة لله تعالى
عادة ما يكون تصورنا من الحاجة لله والعلاقة به مغلوطًا وغير سليم، فنحن نسلم بأننا فقراء إلى الله أحيانًا - وليس دائمًا - ، ونسلم أننا أذلاء ونستجير بعزة الله أحيانًا أيضًا، ونسلم بأننا ضعفاء ولا نستغني عن قوة الله أحيانًا، وهكذا بقية جوانب النقص والضعف فينا، نعلم بأننا أهل لهذا النقص والضعف، لكننا نغفل أن حقيقة ضعفنا وذلنا في كل حين وكل حال .
ففي الدعاء نقول كل صباح:
(فَقْرِي مَسَّتْجِيْرَا بِغِنَاكَ) حتى لو كنا في ذلك اليوم نملك قوت يومنا، بل قوت سنتنا، بل حسب التخيل قوت عمرنا - لو كان المقصود من الفقر في الدعاء هو الفقر المادي - .
ونقول:
( وَأَصْبِحْ ضُعْفِي مَسَّتْجِيْرَا بِقُوتِكَ) حتى لو كنا في ذلك اليوم صحيحي البدن والسمع والنظر، ففي كل حين و كل زمان نحن الضعفاء لله، وما لدينا إنما هو باستجارتنا بالله سبحانه وتعالى، حتى ذلك المعاند الكافر الجاحد بالله الذي يعتقد أنه يملك غنى فهو لا يملك شيء إلا باستجارته بالله تعالى، ولا ينال شيئا إلا برضا الله
( لا الَّذِي أَحْسَنَ اسْتَغْنَى عَنْ عَوْنِكَ وَرَحْمَتِكَ، وَلاَ الَّذِي أَسَاءَ وَاجْتَرَأَ عَلَيْكَ وَلَمْ يُرْضِكَ خَرَجَ عَنْ قُدْرَتِكَ) فكل ما في الكون يقع بعطاء الله ورضاه، و كل من نال لذةً أو أنسًا أو راحةً أو فاز برغبة فمن الله، نعم لو كان جاحدًا -والعياذ بالله - فهذا استدراج من الله سبحانه، لعله يتوب ويرجع، وإن أصرّ واستمر على جحوده فعلى نفسه جنى
( إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ )44:
سورة يونس
الخلاصة: أننا في كل حين و كل آن فقراء لله سبحانه وتعالى على الإطلاق.
الثانية: الاطلاق الأحوالي :
إن جميع كياننا ووجودنا ما هو إلا ضعف وفقر وذل خوف، المقطع الأخير من الدعاء يوضح ذلك
( وَأَصْبَحَ وَجْهِي البَالِيَ) حيث بدأ الدعاء بتعديد الأوجه الواضحة والجليلة التي نعرفها من كياننا الفقر
(فأنا فقير إلى غناك)،
(فأنا خائف) الخوف ، الذل
(فأنا ذليل )، ثم جاءت العبارة الأخيرة توضح أن جميع جهات كيان الإنسان مستجيرة بقدرة الله وقوته ووجهه الباقي .
ننطلق إلى تتمة الدعاء
( يَا كَائِنَا قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَيَا كَائِنًا بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ يَا مُكَوِّنُ كُلِّ شَيْءٍ صَلَّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَالِ مُحَمَّدًا وَاِجْعَلْ لِي مِنْ أَمْرِي فَرَجًا وَمَخْرَجًا وَاُرْزُقْنِي مِنْ حَيْثُ أَحْتَسِبُ وَمِنْ حَيْثُ لَا أَحْتَسِبُ)الباقيات الصالحات / تفسير القمي ما هو الأمر الذي أطلب منه الفرج والمخرج ؟
فالدعاء في فقراته السابقة لم يذكر قضية معينة أو حالة معينة حتى يقول يا رب اجعل لي من هذه الحالة فرجًا ومخرجًا، لذا فالأنسب أن يكون هذا السؤال للخروج من ذل النفس إلى عزة الله، ومن فقر النفس إلى غنى الله، ومن خوف النفس إلى أمان الله، ومن ضعف النفس إلى قوة الله.
ولو أردنا أن نعبر بألفاظ تتناسب بما هو قريب من حالنا وشؤوننا فلنعبر عن هذا الدعاء هكذا: يا رب أنا أصبحت في حياتي أتقلب في أحوالي بين الخوف والفقر والذل حينًا ولكنني يا رب أدرك أنني في كل هذه الأحوال المتقلبة أنا فقير ضعيف ذليل إليك سبحانك وأريد يا رب أن أخرج من ضعف نفسي إلى قوتك المطلقة، ومن فقر نفسي إلى غناك المطلق، يا رب أنت الكريم المعطي الذي لا يعجزه شيء، أنت يا رب مكون كل شيء، وكائن قبل كل شيء، وبعد كل شيء، كرمك لا حدّ له، فأنا يا رب أريد أن أخرج من ذل نفسي إلى عزك، ومن فقر حالي إلى غناك، أنا الآن في هذا الدعاء أقرّ وأعترف لك بأنني لا أملك من الغنى شيئًا ولا من الأمر شيئًا ولا من العز شيئًا ولا من كياني ووجودي شيئًا إلا ما تهبه لي يا رب أخرجني من هذا الذل إلى عزك المطلق، و أخرجني من شقاء هذا الخوف إلى أمنك المطلق، وأخرجني من شقاء هذا الفقر إلى غناك المطلق.
وهذا الخروج من الذل المطلق للنفس إلى العز المطلق لله ومن الفقر المطلق للنفس إلى الغنى المطلق لله هو الذكر لله سبحانه.
الغافل هو الذليل المطلق وإن وجد الجنود والأعوان، وهو الخائف المطلق وإن وجد السلطان والقوة، الغافل هو الذي يتّكل على الأشياء وعلى نفسه وما لديه ويغفل عن الله، كما
روى الإمام الصادق عليه السلام عن الله عز وجل: (َوعِزَّتِي وَجَلَالِي وَمَجْدِي وَاِرْتِفَاعِي عَلَى عَرْشِي لَأَقْطَعَنَّ أَمَلَ كُلٌّ مؤمّل غَيْرَي بِاليَأْسِ، وَلَأَكْسُوَنَّهُ ثَوْبُ المذلّة عِنْدَ النَّاسِ، ولأنّحينّه مِنْ قُرْبِي، وَلَأُبْعِدَنَّهُ مِنْ وِصْلِي، أَيُؤَمِّلُ غَيْرَي فِي الشدائد، والشدائد بِيَدِي) الكافي/منية المريد، الغفلة هي الذل والفقر والخوف المطلق، والذكر هو العز والأمن والغنى المطلق، ذكر الله إذا انتقل من ذكر لفظي، إلى ذكر فعلي، ثم إلى ذكر حالي، ثم إلى ذكر ذاتي فإنه يكون في حالة الارتباط والفناء في الكمال المطلق، وهذه الحال هي الطبقة الرابعة من طبقات الذكر وهي الذكر الذاتي.
فالذكر يبدأ لفظيًا فإذا استقر وثبت المعنى في قلب الإنسان؛ فإن أفعال الإنسان تكون ذكرًا أيضًا فيكون قيامه ذكرًا وجلوسه ذكرًا وزيارته ذكرًا وحديثه إلى إخوانه ذكرًا وعمله وكده على عياله ذكرًا، وقيام المرأة بشؤون بيتها ذكرًا، وتربيتها لأبنائها ذكرًا، وتعلمها ذكرًا، وحسن تبعلها ذكرًا، وفي كل فعل تكون أفعالها ذكرًا، كما تكون أفعال الرجل كلها ذكرًا، ثم ينتقل الإنسان إلى أن يكون حاله ذكرًا لله فقلبه وفكره في حال ذكر دائم لله حتى وإن كان لا يذكر الله لفظًا أو فعلًا؛ لأنه أصبح في حال من الانشداد والارتباط بالله، فيكون فعله كسكونه وصمته كلفظه، لأنه ذاكر لله ذكرًا أحواليًا فلا فرق بين فعل وآخر، إلى أن يبلغ درجة المرحلة الرابعة وذلك بأن يكون ذاته ذكرًا.
ربما يكون هذا الدعاء الذي تم ذكره بوابة لإدراك هذا المعنى أريد يا رب أن أكون غنيًا غنًا مطلقًا وعزيز عزة مطلقة وقوي قوة مطلقة إشارة إلى الذكر الذاتي.
أهل الذكر
وعن الرّيّان بن الصّلت، قال: حَضَر الرضا عليه السّلام مَجْلِسَ المأمون بمَرْو وقد اجتمع في مجلسه من علماء العراق وخراسان، وذكر الحديث إلى أن قال فيه الرضا عليه السّلام: «نحن أهل الذكر الّذين قال الله في كتابه: (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فنحن أهلُ الذكر، فاسألوا إن كنتم لا تعلمون».
فقالت العلماء: إنّما عنى الله بذلك اليهود والنصارى. فقال أبو الحسن عليه السّلام: «سبحان الله، وهل يجوز ذلك؟ إذن يدعونا إلى دينهم، ويقولون: هو أفضل من دين الإسلام».
فقال المأمون: فهل عندك في ذلك شرحٌ بخلاف ما قالوا، يا أبا الحسن؟ فقال عليه السّلام: «نعم، الذِكرُ: رسول الله صلّى الله عليه وآله ونحن أهله، وذلك بيّن في كتاب الله تعالى حيث يقول في سورة الطلاق: (فَاتَّقُوا اللّهَ يا أُولِي الاَْلْبابِ الَّذينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللّهِ مُبَيِّنات) فالذِكر: رسولُ الله، ونحنُ أهله» عيون أخبار الرضا 2 / 216، أمالي الصدوق: 625.
وهذا جمع بين الآيات لتفسيرها، وهذا دروس في أعمق المطالب القرآنية والقواعد التفسيرية القرآنية.
لنأخذ الرواية كما بسطها الإمام عليه السلام
( بأننا أهل الذكر وأن رسول الله هو الذكر ) إذن قولنا بأن الذكر يصل إلى مرحلة الذات وأنه يمكن لبعض الموجودات - ألا وهم أشرف وأعلى الموجودات - أن يكونوا ذكرًا لله لا أن يكون لفظهم أو فعلهم أو حالهم فقط ذكرًا لله، وإنما هم صلوات الله وسلامه عليهم ذكر.
الإنسان العادي من أمثالنا إذا كان لفظه ذكر فإن لفظه الذكري يملك جمالًا - لو كنا ندرك هذا الجمال-، وواقعًا ألفاظه بعضها ذكر وأكثرها ليست بذكر، لكن هذا القليل من الذكر يولد جمالًا وشعاعًا يمتاز عن جميع ألفاظه، وهذا في المرتبة الأولى من الذكر.
والإنسان الذي يترقى ليكون فعله ذكرًا فإن أفعاله التي تكون ذكرًا رغم قلتها يكون لها سموًا ورفعة على سائر أفعاله، وأما أذكاره اللفظية فهي تكون أشد جمالًا من ألفاظ المرتبة الأولى.
والإنسان الذي تكون حاله أحيانًا ذكر ويصل إلى المرتبة الثالثة فإن حاله الذكرية من السمو والرفعة تمتاز عن جميع أحواله، وأما أفعاله فهي أرقى وأتمّ وأنور من أفعال أهل المرتبة الثانية، وأذكاره اللفظية أنور وأشع وأجمل من المرتبة الأولى والثانية .
وأما الإنسان الذي تكون ذاته ذكرًا فألفاظه أكمل الألفاظ وأفعاله أشرف الأفعال وأحواله كلها أسمى الأحوال .
نحن نريد أن نتعرف على هؤلاء الذين هم ذكر، كيف تكون ألفاظهم وأفعالهم وأحوالهم ؟
الإنسان لا يكون في أهل المرتبة الثانية وتكون أكثر أفعاله ذكرًا إلا أن تكون ألفاظه كلها ذكرًا أو معظمها ذكر، أما الإنسان الذي أصبح ذاته ذكرًا فجميع أحواله ذكر ليس له حال دون حال، فضلًا عن أن يكون له فعلًا دون فعل، أو يكون بين ألفاظه تمايز بل كل ألفاظه ذكر وكل أفعاله ذكر وكل حالاته ذكر، فرسول الله صلوات الله وسلامه عليه وأهل بيته الأطهار عليهم السلام ذاتًا هم ذكر، ولذلك هم القرآن الناطق، والقرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهم صلوات الله عليهم لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم ولا من خلفهم، فكل أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم ذكر.
ولهذا سوف يكون مسيرنا في الدروس القادمة من خلال علي بن أبي طالب عليه السلام كنموذج ومثال للذكر .
الحمد لله رب العالمين
البقية تأتي
[/size]