ثانيا فهم المنازعة
ثانيا : فــهم المنــازعة
لفهم قضية منازعة فدك لابد من إطلاق الفكر الحرّ المتتبع لأساليب البحث العلمي النزيه ، والتأمل الواسع في أركان القضية ، ولابد من الأناة في الحكم عقب التتبع في التسلسل الآتي :
1- التشكل الحزبي
أخذت السلطة لونا جماهيريا تمويهيا لتكتسب صلاحيتها من جماعة المسلمين، وأعلنت في ذات الوقت بدايات الانقلاب بإرباك الساحة ورأيها العام بصيحة من عمر تارة بأن محمدا لم يمت حتى يظهر الله دينه ، ليردفه الصديق مناقضا " من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات " ! فاجعة تضاف إلى فاجعة في صلافة وبداوة لم تكن لتلامس العواطف المكلومة بفقد النبي .
في الجانب الآخر كانت السقيفة تُضل مهاترات بتسليم الرئاسة سعد بن عبادة زعيم الخزرج ، وصار اللغط بين المهاجرين والأنصار بأحقية الرئاسة والخلافة. وماهي إلا أن أسرع عمر بنفسه وانتزع أبا بكر من بيت الرسول دون غيره من المهاجرين ، ليلجا بصحبة أبي عبيدة إلى مسرح السقيفة ، وعليه أدّى الثلاثة حُبكة تمثيلية ساقت الإمارة صوب المهاجرين أولياء الله وعشيرة رسوله بحَسَبِهم ، ليُقدم أبو بكر صاحبيه مداهنة لتصير له آخرا وفق ما أُعدّ له ، مستغلين في ذلك غياب أقطاب المهاجرين . فظفر الأول بالسياسة العليا والثاني بالقضاء وقام أبو عبيدة بالمالية .
2- بواعث و تطلعات
لم يكن ما حصل وليد اللحظة الحرجة ، فعمر الذي أربكته وفاة الرسول إلى حدّ أن قال ما قال ، لم يعرف عنه أي ارتباك على النظير يوم كان الرسول على فراش المرض! ثم كان في غمرة الحدث ناقلا مخبرا لخصوص أبي بكر ، معتمّا أمر السقيفة دون آل هاشم ، مؤمّنا للمعارضة الميدانية في ساحتهم .
لقد كانت السيطرة على المناحي الحيوية محل اتهام من الزهراء لهم بالحزبية ، وقد أكدّ أمير المؤمنين ذاته تشاطرهم حلبها وتآزرهم عليها . ولم يكن الأمر ليُغلق فهما دون رؤوس قريش الذين أدركوها كما أدرك معاوية الحيلة وتنظيم الحركة الكاشفة عن سابق تطلعات لا مشروعة ، كانت تهفو لها نفس الصديق والفاروق منذ أيام الرسول وترتفع لها عنقيهما ، وتؤازرهما من داخل البيت النبوي عيون عائشة وحفصة المتوثبتان إلى مناولتها أبويهما دون علي ، وغير المبطئات عن التظاهر على زوجهن الذي كان في كل مرة يردّ لعلي ولي الله وولي رسوله والمؤمنين كفة الإيمان و الحق الراجحة.
3- لم يكن إلا فاطمة ليقف على مسرح الثورة
إن حركة المعارضة الفاطمية بعنوان فدك قد حفظت للزهراء كونها امرأة من بيت العصمة والنبوة ما لا يحفظ لغيرها لو قام به ، فحركة امرأة في منظور جاهلية الأعراب الأجلاف لا يمكن مهما بلغت أن تكون حركة مسلحة أو أن تصل بها إلى دائرة الحكم ، لم يكن إلّاها ليقف هذا الموقف مدافعا عن دين الله ووليه المنصوب ، وحقيقة هي بالنظر إلى موافقة الثورة لطبعها وملاءمتها لشخصها القائم على الحق والانتصار له .
كما أن لها مكانتها الخاصة من النبي كونها المعزّاة الأولى به ، الأمر الذي يجعلها الأقدر على ملامسة العواطف وتجنيدها من أجل الحق ، مستشرفة لأمّة أبيها بشفقتها عليها ثباتها واستبسالها للنصر وللحق الذي أسست له .
4 – منطلق الثورة الفاطمية
بدأت فاطمة حراكها من باب بيتها إلى المحاكمة العلنية في مسجد رسول الله في لمّة لافتة من النساء تمشي مشية والدها . وبيدها من المستمسكات ما لا يمكن مواجهتها ومداهنتها بالضّد ، كان في طليعتها وهنهم وفرارهم عمّا استبسل فيه وله ابن عمها ووليها المقدّم في حروب وغزوات سوح الجهاد. المؤتمن على الوحي ، المنتخب لتبليغ براءة ، المُنحّى دونه من لا يليق برسول الله ممثلا وأمينا .
ناظرة إلى إرجاف المرجفين يوم استخلف الرسول عليا على المدينة حين خرج إلى الحرب . وانقلابهم - تاليا - بإسقاطهم حساب الكتاب والسنة في مقاييس الخلافة وتعميمهم المنطق الجاهلي .
وبذلك اجتمعت للبيت الهاشمي المفجوع بعميده كل بواعث الثورة على الأوضاع القائمة والانتحاء نحو تغييرها ، واجتمع لفاطمة كل إمكانات الثورة ومؤهلات المعارضة .
5- تأميم الثورة
وقف الأول موقف النقيض مع بنت النبي الأطهر على حدّ الخلاف وردّ دعوى فاطمة ولم يقبل لها قولا ولا شهادة ، وكان لابد من تسفيه رأيها بطلب ما ليس لها بحق حتى لا تطالب بعدها بحق ولاية ابن عمها ، فلقد مثلت الزهراء سند علي الأقوى والداعية إلى مناصرته .
وما ُمنعت عن الزهراء نحلتها إلا خشية أن يتوصل بها علي وقرينته إلى السلطان ، في الوقت الذي يطمع الخليفة في تقوية دولة الشورى الناهضة ، ودعم حروبها وفتوحاتها بالأموال الطائلة التي تؤمنها فدك .
تحدوه إلى ذلك كوامن لها سُعار عاطفي متلظٍ لفاطمة وزوجها . فالوالد الشفيق لا يمكن أن يتناسى أم المؤمنين وتنافسها على قلب رسول الله الذي كانت تسكنه روحه وبضعته. ولازالت الباعث في اتساع منذ أيام الرسول وموقف علي من حادثة الإفك ، ويزيده فتقا مراقبة والدها لبيت النبوة ، وما سجل الوحي للبتول وزوجها الذي فاز بها دونه زوجا والمبّلغ – وحده - عن رسول الله البراءة.
6- تأمين الساحة
أشاع الفريق الحاكم بين العامة على صعيد الموقف الاجتماعي كله بالتحذير من إحداث الفتنة المحرمة بعد البيعة . ومع ذلك لم تخلُ الساحة من معارضة رغم ما كان من قبضهم الأمر، تمثلت في ثلاثة :
الأول : الأنصار المغلوبون في السقيفة بنزعتهم القبلية ، والمؤّمن بموقفهم هذا عدم الميل إلى علي والهاشميين .
الثاني : الأمويون الجاهليون الطامعون ، وكان من السهل كسبهم بالمال ومنحهم المراكز الحكومية الحساسة ، و تهيئة الولاية لهم ليحل عثمان ثالثا في كيان سياسي لا تنتهي معارضته للبيت الهاشمي .
الثالث : الهاشميون بقوتيهم المادية والمعنوية التي تمثل فدك نقطة الالتقاء بينهما . فتمّ قطع الأولى بمصادرة فدك وبإلغاء امتيازات الهاشميين و بإبعادهم عن مرافق الدولة الهامة ، وتنحيتهم عن قياداتها في وحدة سياسية مقننة .
وقد بلغت الشدة منهم في وأد المعارضة أن لم تُرعَ حرمة لبيت فاطمة الذي هدد عمر بحرقه وإن كانت فيه ،وسُفّهت دعواها فدك لتؤاخذ بانتصارها لعلي الذي لم تُحفظ مكانته حتى وصف بمربي كل فتنة ، ثم ليوضع في مصاف شورى بين خمسة لا يكافئونه وهذا بالتأكيد وليد سياسة متعمدة .
7- علي المعارض
إن عليا الذي قدم حياته كلها قربانا لله تعالى منذ الليلة التي بات فيها على فراش الفداء حتى قضى في محراب الكوفة شهيدا لم يكن لينكفئ عن التضحية في لحظة من أهم اللحظات المصيرية .
وقف علي معارضا لحركة السيف والدم وفتنة الاقتتال . وامتنع عن الثورة بالمقابلة المسلحة لمّا لم تسمح له الفرصة بإعلاء الصوت وإحراز الناصر ، وراح وزوجه الكريمة تسانده يطوف سرا بيوت زعماء المدينة ممهدا للإجماع عليه . فلما عزّ الناصر والمعين ارتفع بقضيته من أن توأد على كرسي الحكم ، وبقي علي قطب رحاها جوهر وجودها، حارسا للخلافة يوجهها مجراها الطبيعي على اعتدال ، فكان العين المانعة انعطاف الحكومة المُعدّ إلى الانحراف بها إلى دول أبعد من دولة الشيخين .
وبذلك رفع الإمام المحذور بمحو الدين واختلاف الناس على الأمر ، بين من يتحيّن لمنازعة الحكومة ، وبروز من تهيّب قبلا نزول الساحة ، والحذر من التكتلات السياسية الطامعة في الجاه والسلطة ، و من دخول المنافقين ، وتهيّج كل تلك الأحزاب في ثورة دموية يُسفك فيها دم الإسلام في فتن مظلمة .
8- بين نص السماء ورفض أهل الأرض
لم تجد النصوص الثابتة في ولاية علي طريقها لإثبات الحق المهدور في تلك الظروف المشوشة ، ولم يكن من ناصر مأمون ليحملها ، فقد كان الانتصار في ذهنية العامة - وقتها - لرفض اجتماع النبوة والخلافة في بيت واحد لا إلى النص . فشرفها علي ورفعها دون التكذيب والإنكار من قبل الحزب الحاكم المستميت من أجل دولته ، لألّا تفقد لونها الشرعي المقدس ، ولا تمس العرب بإنكارها مهابة الرسول وصدق مقالته فتضيع بذلك مستمسكات الإمامة العلوية ، مدخرا إياها لموقف تالٍ يمانع بني أمية بها في وقت كانت الأمة في أمسّ الحاجة إليها.
ولو دار الأمر مدار النص لكانت حرب المواجهة العنيفة بين الفرقاء ، ولو حُسمت بالانتصار لعلي لبدت حينها خلافة علي لمن لم يبلغهم النص ظاهرة مظهر الغلبة والقوة لا النص والانتخاب السماوي . وهذا بحد ذاته تشويها لا يبتغيه جمال علي .
لقد كان مفهوما بين الناس على شهرة وتواتر معنى الوصاية لعلي سواء أريد بها الخلافة الشرعية أو الوصاية على العلم والشريعة ، وعلى أيٍ من الرأيين دارت الصحة فقد كان الأول مسرفا في سرقته لأنفس المعنويات الإسلامية وأهما على الإطلاق .
التعديل الأخير تم بواسطة الادارة ; 04-19-2017 الساعة 08:37 AM
|