من خلال استعراضنا السابق للنصوص القرآنية الكريمة التي أوضحت فكرة السنن التاريخية وأكدت عليها، يمكننا إن
نستخلص ثلاث حقائق أكد عليها القرآن الكريم بالنسبة إلى سنن التاريخ .
🔹 الحقيقة الأولى: إن السنن القرآنية للتاريخ ذات طابع علمي ؛ لأنها تتميز بالاطراد الذي يميز القانون العلمي.
🔹 الحقيقة الثانية: أنها ذات طابع رباني ؛ لأنها تمثل حكمة الله وحسن تدبيره على الساحة التاريخية.
🔹 الحقيقة الثالثة: أنها ذات طابع إنساني ؛ لأنها لا تفصل الإنسان عن دوره الايجابي ولا تعطل فيه إرادته وحريته اختياره، وإنما تؤكد أكثر فأكثر مسؤوليته على الساحة التاريخية.
ما مجال السنن على الساحة التاريخية؟
والسؤال : الذي نواجهه بعد ذلك هو .
تشخيص ميدان هذه السنن ؟
لكن قبل هذا يجب أن نعرف
📌 ماذا نقصد بالساحة التاريخية؟
الساحة التاريخية: عبارة عن الساحة التي تحوي تلك الحوادث والقضايا التي يهتم بها المؤرخون، ويسجلونها في كتبهم.
فالسؤال هنا إذن هو هكذا: هل أن كل هذه الحوادث والقضايا التي يضبطها المؤرخون وتدخل في نطاق مهمتهم التاريخية والتسجيلية، هل كلها محكومة بالسنن التاريخية ؟
أو أن جزءا معينا من هذه الحوادث والقضايا هو الذي تحكمه سنن التاريخ ؟
الصحيح أن جزءا معينا من هذه الحوادث والقضايا هو الذي تحكمه سنن التاريخ. هناك حوادث لا تنطبق عليها سنن التاريخ، بل تنطبق عليها القوانين الفيزيائية أو الفسلجية أو قوانين الحياة أو أي قوانين أخرى لمختلف الساحات الكونية الأخرى. مثلا: وفاة أبي طالب والسيدة خديجة في سنة معينة ، حادثة تاريخية مهمة تدخل في نطاق ضبط المؤرخين، وأكثر من هذا هي حادثة ذات بعد في التاريخ ترتبط بها آثار كثيرة في التاريخ، ولكنها لا تحكمها سنن التاريخ، تحكمها قوانين فسلجية، قوانين الحياة التي تفرض المرض و الشيخوخة ضمن شروط معينة وظروف معينة.
العمل التاريخي الذي تحكمه سنن التاريخ هو العمل الذي يكون حاملا لعلاقة مع هدف وغاية، ويكون في نفس الوقت ذا أرضية أوسع من وجود الفرد، ذا موج يتخذ من المجتمع علة مادية له وبهذا يكون عملا اجتماعيا.
📌 أشكال السنن التاريخية في القرآن :
هناك ثلاثة أشكال تتخذها السنة التاريخية في القرآن الكريم، لابد من استعراضها ومقارنتها والتدقيق في أوجه الفرق بينها:
ـ الشكل الأول للسنة التاريخية:
هو شكل القضية الشرطية. في هذا الشكل تتمثل السنة التاريخية في قضية شرطية تربط بين حادثتين أو مجموعتين من الحوادث على الساحة التاريخية وتؤكد العلاقة الموضوعية بين الشرط والجزاء، وانه متى ما تحقق الشرط تحقق الجزاء.
وهذه صياغة نجدها في كثير من القوانين والسنن الطبيعية والكونية في مختلف الساحات الأخرى. فمثلا: حينما نتحدث عن قانون طبيعي لغليان الماء، نتحدث بلغة القضية الشرطية، نقول بأن الماء إذا تعرض إلى الحرارة بدرجة معينة سوف يحدث الغليان.
هذا قانون طبيعي يربط بين الشرط والجزاء ويؤكد أن حالة التعرض إلى الحرارة ضمن مواصفات معينة تذكر في طرف الشرط، تستتبع حادثة طبيعية معينة وهي غليان هذا الماء، تحول هذا الماء من سائل إلى غاز. هذا القانون مصاغ على نهج القضية الشرطية. ومن الواضح أن هذا القانون الطبيعي لا ينبئنا شيئا عن تحقق الشرط وعدم تحققه، ولا يتعرض إلى مدى وجود الشرط وعدم وجوده، ولا ينبئنا بشيء عن تحقق الشرط ايجابيا أو سلبا، وإنما ينبئنا عن أن الجزاء لا ينفك عن الشرط، متى ما وجد الشرط وجد الجزاء. فالغليان نتيجة مرتبطة موضوعيا بالشرط.
ومثل هذه القوانين تقدم خدمة كبيرة للإنسان في حياته الاعتيادية وتلعب دورا عظيما في توجيه الإنسان ؛ لأن الإنسان ضمن تعرفه على هذه القوانين يصبح بإمكانه أن يتصرف بالنسبة إلى الجزاء، ففي كل حالة يرى انه بحاجة إلى الجزاء يوفر شروط هذا القانون، وفي كل حالة يكون الجزاء متعارضا مع مصالحه ومشاعره يحاول الحيلولة دون توفر شروط هذا القانون. إذن القانون الموضوع بنهج القضية الشرطية موجه عملي للإنسان في حياته. ومن هنا تتجلى حكمة الله سبحانه وتعالى في صياغة نظام الكون على مستوى القوانين وعلى مستوى الروابط المطردة والسنن الثابتة ؛ لأن صياغة الكون ضمن روابط مطردة وعلاقات ثابتة هو الذي يجعل الإنسان يتعرف على موضع قدميه، وعلى الوسائل التي يجب إن يسلكها في سبيل تكييف بيئته وحياته والوصول إلى إشباع حاجته. فلو أن الغليان في الماء كان يحدث صدفة ومن دون رابطة قانونية مطردة مع حادثة أخرى كالحرارة، إذن لما استطاع الإنسان أن يتحكم في هذه الظاهرة متى ما كانت حياته بحاجة إليها، وان يتفاداها متى ما كانت حياته بحاجة إلى تفاديها، إنما كانت له هذه القدرة باعتبار أن هذه الظاهرة وضعت في موضع ثابت من سنن الكون وطرح على الإنسان القانون الطبيعي بلغة القضية الشرطية، فأصبح ينظر في نور لا في ظلام، ويستطيع في ضوء هذا القانون الطبيعي أن يتصرف.
نفس الشئ نجده في الشكل الأول من السنن التاريخية القرآنية، فإن عددا كبيرا من السنن التاريخية في القرآن قد تمت صياغتها على شكل القضية الشرطية التي تربط ما بين حادثتين اجتماعيتين أو تاريخيتين، بحيث انه متى وجدت الحادثة الأولى وجدت الحادثة الثانية.
ففي قوله تعالى : (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). الرعد/11
إشارة إلى سنة تاريخية بينت بلغة القضية الشرطية ؛ لأن مرجع هذا المفاد القرآني إلى أن هناك علاقة بين تغييرين: بين ▫تغيير المحتوى الداخلي للإنسان
▫وتغيير الوضع الظاهري للبشرية والإنسانية. مفاد هذه العلاقة قضية شرطية: انه متى ما وجد ذاك التغيير في أنفس القوم وجد هذا التغيير في بنائهم وكيانهم. وكذلك في قوله تعالى (و أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ أسقيناهم ماءً غدقا).
الجن/16.
تشير الآية الكريمة إلى سنة من سنن التاريخ، سنة تربط بين وفرة الإنتاج بعدالة التوزيع. هذه السنة أيضا هي بلغة القضية الشرطية كما هو الواضح من صياغتها النحوية أيضا.
ـ الشكل الثاني الذي تتخذه السنن التاريخية:
شكل القضية الفعلية الناجزه الوجودية المحققة، وهذا الشكل أيضا نجد له أمثلة وشواهد في القوانين الطبيعية والكونية. مثلا: العالم الفلكي حينما يصدر حكما علميا على ضوء قوانين مسارات الفلك، بأن الشمس سوف تكسف في اليوم الفلاني أو أن القمر سوف ينخسف في اليوم الفلاني، فانه قانون علمي وقضية علمية، ألا أنها قضية وجودية ناجزه، ليست قضية شرطية. فالإنسان لا يملك تجاه هذه القضية إن يغير من ظروفها، أن يعدل من شروطها ؛ لأنها لم تبين كلغة قضية شرطية، وإنما بينت على مستوى القضية الفعلية الوجودية: الشمس سوف تكسف، القمر سوف ينخسف. هذه قضية فعلية تنظر إلى الزمان الآتي وتخبر عن وقوع هذه الحادثة على أي حال. كذلك الأنواء الجوية، القرارات العلمية التي تصدر عن الأنواء الجوية: المطر ينهمر على المنطقة الفلانية. هذا أيضا يعبر عن قضية فعلية وجودية لم تصغ بلغة القضية الشرطية، وإنما صيغت بلغة التنجيز والتحقيق بلحظ مكان معين وزمان معين. هذا هو الشكل الثاني من السنن التاريخية.
هذا الشكل من السنن التاريخية هو الذي أوحى في الفكر الأوروبي بتوهم التعارض بين فكرة سنن التاريخ وفكرة اختيار الإنسان وإرادته. نشأ هذا التوهم الخاطئ الذي يقول بأن فكرة سنن التاريخ لا يمكن أن تجتمع إلى جانب فكرة اختيار الإنسان ؛ لأن سنن التاريخ هي التي تنظم مسار الإنسان وحياة الإنسان، إذن ماذا يبقى لإرادة الإنسان؟
هذا التوهم أدى إلى أن بعض المفكرين يذهب إلى أن الإنسان له دور سلبي فقط حفاظا على سنن التاريخ وعلى موضوعية هذه السنن. وذهب بعض آخر في مقام التوفيق ما بين هاتين الفكرتين ولو ظاهريا إلى أن اختيار الإنسان نفسه هو أيضا يخضع لسنن التاريخ ولقوانين التاريخ , فهذا البعض لا يضحي باختيار الإنسان، لكن يقول بأن اختيار الإنسان لنفسه حادثة تاريخية أيضا، إذن هو بدوره يخضع للسنن، هذه تضحية باختيار الإنسان لكن بصورة مبطنة غير مكشوفة.
بينما ذهب فريق ثالث إلى
إلى التضحية بسنن التاريخ لحساب اختيار الإنسان، فذهب جملة من المفكرين الأوروبيين إلى انه مادام الإنسان مختارا فلابد من أن يستثنى الساحة التاريخية من الساحات الكونية في مقام التقنين الموضوعي، لابد وان يقال بأنه لا سنن موضوعية للساحة التاريخية حفاظا على إرادة الإنسان وعلى اختيار الإنسان.
وهذه المواقف كلها خاطئة ؛ لأنها جميعا تقوم على ذلك الوهم الخاطئ، وهم الاعتقاد بوجود تناقض أساسي بين مقولة السنة التاريخية , ومقولة الاختيار، وهذا التوهم نشأ من قصر النظر على الشكل الثاني من أشكال السنة التاريخية، أي قصر النظر على السنة التاريخية المصاغة بلغة القضية الفعلية الوجودية الناجزة. لو كنا نقصر النظر على هذا الشكل من سنن التاريخ ، ولو كنا نقول بأن هذا الشكل هو الذي يستوعب كل الساحة التاريخية ، لكان هذا التوهم واردا ، ولكنا يمكننا إبطال هذا التوهم عن طريق الالتفات إلى الشكل الأول من أشكال السنن الذي تصاغ فيه السنة التاريخية بوصفها قضية شرطية. وكثيرا ما تكون هذه القضية الشرطية في شرطها معبرة عن إرادة الإنسان واختياره، بمعنى إن اختيار الإنسان يمثل محور القضية الشرطية وشرطها. إذن فالقضية الشرطية كالأمثلة التي ذكرناها من القرآن الكريم تتحدث عن علاقة بين الشرط والجزاء، والشرط هو فعل الإنسان، وإرادته: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) الرعد/11.
فالتغيير هنا اسند إليهم فهو فعلهم، إبداعهم وإرادتهم.
إذن السنة التاريخية حينما تصاغ بلغة القضية الشرطية، وحينما يحتل إبداع الإنسان واختيار الإنسان موضوع الشرط في هذه القضية الشرطية تصبح هذه السنة متلائمة تماما مع اختيار الإنسان، بل إن السنة حينئذ تُطغي اختيار الإنسان، تزيده اختيارا وقدرة وتمكنا من التصرف في موقفه، فكما إن ذلك القانون الطبيعي للغليان يزيد من قدرة الإنسان في إن يتحكم في الغليان بعد إن عرف شروطه وظروفه كذلك السنن التاريخية ذات الصيغ الشرطية، هي في الحقيقة ليست على حساب إرادة الإنسان، وليست نقيضا لاختيار الإنسان، بل هي مؤكدة لاختيار الإنسان، وتوضح للإنسان نتائج الاختيار لكي يستطيع أن يقتبس ما يريده من هذه النتائج، لكي يتعرف على الطريق الذي يسلك به إلى هذه النتيجة أو إلى تلك النتيجة، فيسير على ضوء وكتاب منير. هذا هو الشكل الثاني للسنة التاريخية.
ـ الشكل الثالث للسنة التاريخية: وهو شكل اهتم به القرآن الكريم اهتماما كبيرا، هو السنة التاريخية المصاغة على صورة تجاه طبيعي في حركة التاريخ لا على صورة قانون صارم حدي. وفرق بين الاتجاه والقانون. ولكي تتضح الفذلكة في ذلك لابد وان نطرح الفكرة الاعتيادية التي نعيشها في أذهاننا عن القانون.
القانون العلمي كما نتصوره عادة: عبارة عن تلك السنة التي لا تقبل التحدي من قبل الإنسان ؛ لأنها قانون من قوانين الكون والطبيعية فلا يمكن للإنسان أن يتحداها ويخرج عن طاعتها. يمكنه أن لا يصلي ؛ لأن وجوب الصلاة حكم تشريعي وليس قانونا تكوينيا، يمكنه أن يشرب الخمر ؛ لأن حرمة شرب الخمر قانون تشريعي وليس قانونا تكوينيا، لكنه لا يمكنه أن يتحدى القوانين الكونية والسنن الموضوعية، مثلا: لا يمكنه أن يجعل الماء لا يغلي إذا توفرت شروط الغليان، لأن هذا قانون، والقانون صارم، والصرامة تأبى التحدي.
هذه هي الفكرة التي نتصورها عادة عن القوانين، وهي فكرة صحيحة إلى حد ما، لكن ليس من الضروري أن تكون كل سنة طبيعية موضوعية على هذا الشكل بحيث تأبى التحدي ولا يمكن تحديها من قبل الإنسان بهذه الطريقة، بل هناك اتجاهات موضوعية في حركة التاريخ وفي مسار الإنسان، إلا أن هذه الاتجاهات لها شئ من المرونة بحيث أنها تقبل التحدي ولو على شوط قصير، وان لم تقبل التحدي على شوط طويل. أنت لا تستطيع أن تؤخر موعد غليان الماء لحظة، لكن تستطيع أن تجمد هذه الاتجاهات لحظات من عمر التاريخ، لكن هذا لا يعني أنها ليست اتجاهات تمثل واقعا موضوعيا في حركة التاريخ، هي اتجاهات ولكنها مرنة تقبل التحدي لفترة ثم تحطم المتحدي نفسه.
لكي اقرب الفكرة نستطيع أن نقول بأن هناك اتجاه في تركيب الإنسان، اتجاه موضوعيا لا تشريعيا، إلى إقامة العلاقات المعينة بين الذكر والأنثى في مجتمع الإنسان ضمن إطار من اطر النكاح موضوعي أعملت العناية في سبيل تكوينه في مسار حركة الإنسان. لا نستطيع أن نقول: إن هذا مجرد قانون تشريعي أو مجرد حكم شرعي، وإنما هذا تجاه رُكب في طبيعة الإنسان وفي تركيبه، وهو الاتجاه إلى الاتصال بين الذكر والأنثى وإدامة النوع عن طريق هذا الاتصال ضمن إطار من اطر النكاح الاجتماعي هذه سنة، لكنها سنة على مستوى الاتجاه لا على مستوى القانون. لماذا؟ لأن التحدي لهذه السنة لفترة ما ممكن. أمكن لقوم لوط أن يتحدوا هذه السنة فترة من الزمن، بينما لم يكن بإمكانهم أن يتحدوا سنة الغليان بشكل من الأشكال، لكنهم تحدوا هذه السنة، إلا أن تحدي هذه السنة على المدى الطويل يؤدي إلى أن يتحطم المتحدي كما تحطم مجتمع قوم لوط.
إذا الاتجاه إلى توزيع الميادين بين المرأة والرجل اتجاه موضوعي، وليس اتجاها ناشئا من قرار تشريعي. اتجاه ركب في طبيعة الرجل والمرأة، ولكن هذا الاتجاه يمكن أن يتحدى، يمكن استصدار تشريع يفرض على الرجل بأن يبقى في البيت ليتولى دور الحضانة والتربية، وان تخرج المرأة إلى الخارج لكي تتولى مشاقة العمل والجهد. هذا بالإمكان أن يتحقق عن طريق تشريع معين وبهذا يحصل التحدي لهذا الاتجاه، لكن هذا التحدي سوف لن يستمر ؛ لأننا بهذا سوف نخسر ونجمد كل تلك القابليات التي زودت بها المرأة من قبل هذا الاتجاه لممارسة دور الحضانة والأمومة، وسوف نخسر كل تلك القابليات التي زود بها الرجل من اجل ممارسة دور يتوقف على الجلد والصبر والثبات وطول النفس. تماما من قبيل أن تسلم بناية، تسلم نجارياتها إلى حداد، وحدا دياتها إلى نجار. يمكن أن تصنع هكذا ويمكن أن تنشأ البناية أيضا، لكن هذه البناية سوف تنهار سوف لن يستمر هذا التحدي على شوط طويل، سوف ينقطع في شوط قصير. كل تجاه من هذا القبيل هو في الحقيقة سنة موضوعية من سنة التاريخ ومن سنن حركة الإنسان، ولكنها سنة مرنة تقبل التحدي على الشوط القصير، ولكنها تجيب على هذا التحدي.
وهل تعلم أن الدين سنة إلهية من الشكل الثالث: إن أهم مصداق يعرضه القرآن الكريم لهذا الشكل من السنن هو الدين. القرآن الكريم يرى أن الدين ليس فقط تشريعا وقانونا اعتباريا بل هو سنة موضوعية من سنن التاريخ، ولهذا يعرض الدين على شكلين:
تارة يعرضه بوصفه تشريعا وقانونا اعتباريا كأن يقول: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه) الشورى/13.
هنا يبين الدين كتشريع، كقرار، كأمر من الله سبحانه وتعالى . لكن في مجال آخر يبينهُ سنةً من سنن التاريخ وقانونا داخلا في صميم تركيب الإنسان وفطرة الإنسان. قال سبحانه وتعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) الروم/30.
هنا الدين لم يعد مجرد تشريع أو مجرد قرار من أعلى وإنما الدين هنا فطرة للناس، هو فطرة الله التي فطر عليها الناس ولا تبديل لخلق الله. هذا الكلام كلام موضوعي خبري لا تشريعي إنشائي. لا تبديل لخلق الله: يعني كما انك لا يمكنك أن تنتزع من الإنسان أي جزء من أجزائه التي تقوّمه، كذلك لا يمكنك أن تنتزع من الإنسان حاجته إلى دين الله.
الدين ليس مقولة حضارية مكتسبة على مر التاريخ يمكن إعطاؤها ويمكن الاستغناء عنها ؛ لأنها في حالة من هذا القبيل لا تكون فطرة الله التي فطر الناس عليها ولا تكون خلق الله الذي لا تبديل له. القرآن يريد أن يقول بأن الدين ليس مقولة من هذه المقولات التي بالإمكان أخذها وبالإمكان الاستغناء عنها، الدين خلق الله: (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله).
هذا الكلام (لا) هنا ليست ناهية بل نافية، يعني هذا الدين لا يمكن أن ينفك عن خلق الله مادام الإنسان إنسانا. فالدين الإلهي سنة وقانون لا بد منه، ولكنها ليست سنة صارمة على مستوى قانون الغليان، بل هو سنة تقبل التحدي على الشوط القصير، كما كان بالإمكان تحدي سنة النكاح والتزاوج الطبيعي، عن طريق الشذوذ الجنسي لكن على شوط قصير، كذلك يمكننا أيضا تحدي الدين كسنة على شوط قصير عن طريق الإلحاد وغمض العين عن هذه الحقيقة الكبرى، ولكن هذا التحدي لا يكون إلا على شوط قصير ؛ لأن العقاب سوف ينزل بالمتحدي. العقاب هنا ليس بمعنى العقاب الذي ينزل على من يرتكب مخالفة شرعية أو قانونية على يد الدولة أو على يد ملائكة العذاب في السماء يوم القيامة، وإنما العقاب هنا ينزل من سنن التاريخ نفسها.
من وجهه نظري فالقران الكريم ليس بكتاب علمي أو قصصي تفصيلي يذكر قصص الأنبياء بالتفصيل كسنن تاريخية ربانية مسيرة , و إنما يذكرها لهداية الناس وليبين الصواب والخطأ من عقاب وثواب وما وقع للأمم السابقة من حوادث نتيجة لتصرف خطأ قاموا به .
لذا في نهاية المطاف : ننصرف من منطقة الفكر إلى منطقة القلب , من منطقة العقل إلى منطقة الوجدان , أريد أن نعيش معا لحظات بقلوبنا ووجداننا لا بعقولنا فقط , أريد أن نعرض هذه القلوب على القران الكريم بدلا من أن نعرض أفكارنا وعقولنا , لمن ولاؤها ؟ ماهو هذا الحب الذي يسودها وبمحورها ويستقطبها ؟ إن الله لا يجمع في قلب واحد ولائين , لا يجمع حبين مستقطبين. إما حب الله وإما حب الدنيا , ولهذا قال الرسول (ص) : حب الدنيا رأس كل خطيئة .
لان حب الدنيا هو الذي يفرغ الصلاة من معناها , ويفرغ الصيام من معناه ويفرغ كل عبادة من معناها .
أنا وانتم نعرف أن أولئك الذين نذمهم على ماعملوا مع أمير المؤمنين ,لم يتركوا صلاة ولم يتركوا صياما ولم يشربوا خمرا , عبد الرحمن بن عوف كان صحابيا جليلا كان ممن اسلم والناس كفار ومشركون , تربى على يد الرسول (ص) ، هذا الرجل المسكين كان يصلي ويصوم ولكن ملأ قلبه حب الدنيا حينما وقف في خيار واحد بين عثمان وعلي (ع) , ضرب على يد عثمان وترك عليا (ع) , هل هذا الموقف من عبد الرحمن بن عوف صحيح؟ بمنطق حب الله وحب الدنيا , طبعا لا . فالمسألة ليست فقط مسالة نص وإنما مسالة خيانة الامانه لان حب الدنيا يعمي ويصم . حب الله هو الذي جعل أولئك السحرة يتحولون إلى رواد على الطريق ,فقالوا لفرعون :
(فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا ) سورة طه/72اية
لان حب الله اشتعل في قلوبهم فقالوا لفرعون بكل شجاعة وبطولة (فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا)
حب الله هو الذي جعل علي (ع) يقف مواقف الشجاعة ,ليست شجاعة السباع وإنما شجاعة الإيمان وحب الله , بل كانت شجاعة الرفض ,بل أحيانا شجاعة الصبر , لان حب الله أسكره ,فلم يجعله يلتفت إلى أن هؤلاء أربعة آلاف وهو واحد !
نحن أولى الناس بان نطلق الدنيا , إذا كان حب الدنيا خطيئة , نحن أولى وأحق الناس باجتناب هذه المهلكة , لأننا ندعي أننا ورثة الأنبياء والأئمة أننا السائرون على طريق محمد (ص) وعلي والحسن والحسين عليهم الصلاة والسلام .
ألسنا نحاول أن نعيش شرف هذه النسبة , هذه النسبة تجعل موقفنا أدق من غيرنا ,لأننا أقوال وأفعال هؤلاء .
الأئمة (ع) علمونا بان تذكر الموت يكون من العلاجات المفيدة لحب الدنيا , فما هي هذه الدنيا ؟ لعلها أيام ؟ أشهر فقط ؟ لعلها سنوات ؟ لعلنا لا ندافع إلا عن عشر أيام ؟ لا ندري عن ماذا ندافع ؟ نتحمله سبيل الدفاع عن ماذا ؟ عن عشرة أيام عن شهر ؟ هذه بضاعة رخيصة .
لذا نسأل الله أن يطهر قلوبنا وقلوب المؤمنين والمؤمنات و تملأ حبا له وخشية منه وعملا بكتابه و تصديقا به .
هذا وصلى الله على محمد وآله الطاهرين