تتمة الحلقة الثالثة. .
هناك عدة أسباب سنشير إليها :
🔹 السبب الأول :
إن هذه الحياة الدنيا هي أضعف مراتب الحياة ، وحينما ينفق الإنسان قدرته وطاقته ووجوده في الحياة الدنيا فإنه يشكل لنفسه حجاباً أمام المراتب الأخرى التي هي أرفع درجة منها . فحينما يتشبث الإنسان بهذه الصغائر والمكاسب المحدودة ويجعلها غايته وأمله ومدار وجوده ، سيتوقف عن حركته ومسيرته إلى الكمالات والحياة الأفضل والأتم . والمشكلة أن الإنسان إذا أراد الوقوف عند درجة الحياة الدنيا ( وهي أدنى درجات الحياة ) فإنه يحرم نفسه من الإرتقاء إلى درجاتها الأخرى .
🔹 السبب الثاني :
أن الحياة الدنيا هي المركز الحياتي الذي يختلط به الصالح من الحياة مع منغصاتها وشوائبها إلى درجة يصعب فيها تحصيل كمالاتها ويصعب تخليص ما في الحياة الدنيا عن غيرها من الشوائب ، كالذهب الذي امتزج بغيره امتزاجاً يصعب التخلص منه وفصله عنه وذلك إذا اختلط بشيء غير مرغوب أو ضار ومميت .
والنتيجة ؛ أن هذا الاختلاط في هذه الحياة الدنيا وعدم القدرة على فصل محاسنها ( التي هي الحياة ) عن غيرها من الشوائب ( التي هي مما يضاد الحياة ) ، هو السبب الذي يجعل من الحياة عنصرا مذموما في الشريعة المقدسة .
(( دخل رجل على الإمام الصادق ( ع ) وكان -الإمام - يلبس لبسا جميلا لينا نظيفا ، فقال الرجل : ( يا بن رسول الله إن جدك كان لا يلبس إلا ملابس الصوف والملابس الخشنة وأنت تلبس الملابس الناعمة ) - فهذا الرجل ظن أن الأمير (ع) في لبسه للملابس الخشنة البسيطة يريد تنفير الناس عن معنى الحياة - فأراد الإمام الصادق (ع) أن يعلمه فقال له : ( إن أحق الناس بالحياة أكملهم وهم أهل الفضائل فيها ))
ولكن مشكلة هذه الحياة أنها اختلطت بالشوائب وما هو خلاف معنى الحياة ، فاقتضى الأمر أن السبيل للرقي للدرجات العليا من الحياة أن يبتعد الإنسان عن هذا الخليط والمزيج المكون من الماء الطاهر النقي مع ما مزج به من سوائل كدرة ، والحل هو ما قام به الأمير (ع) من الزهد فيها و الاستمتاع بها بقدر لا تختلط به مع المكاسب المحرمة والسيئة ، والآية :
﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ سورة الأعراف : (32) تركز هذا المعنى ، وبعد توضيح هذه الأمور التي تسبب تصوراً غير سليم نخلص إلى أن حقيقة الحياة وأصلها يعد عنصراً من الكمال ومنشأ لجميع الفضائل .
☄ منبع الحياة :
نحن عندما نقرأ الزيارة التي وردت في تعريف الإمام بأنه هو ( عين الحياة ) فأننا يجب أن ندرك أن هذه الزيارة تشير إلى أن هذه المدارج من الكمالات ، والترقي في درجات الكمال من المراتب التي ذكرناها والتي سوف نشير إليها ونتحدث عنها في صعودها وتساميها وبلوغها أعلى الدرجات ، وهي مرتبطة ارتباطا جذريا بعطاء الإمام ورضاه (عج) .
الله جل وعلا هو منبع الحياة ، وهو الحي الذي استمد الوجود حياته منه ، وقد اقتضت إرادة الله عز وجل أن يكون استمداد هذه الحياة من أوليائه ، وعنهم تصدر هذه الحياة وتمتد ، وبيدهم المدد والعطاء .
وحتى لا يبقى هذا البحث في مستوى التنظير الفكري نقرأ هاتين الروايتين ، ونستفيد أن للإمام (ع) علقة بامتدادات الحياة ، فالروايتين تتحدثان حول موضوع واحد وهو درجة الارتباط بين إمام كل زمان وبين الحياة في زمانه ، ولأن الروايات تتحدث عن المؤمنين اتضح لنا أن الإنسان غير المؤمن قد كبح جماح تحركه في الحياة لدرجة أنه أصبح في حالة من الجمود والركود ، أما الإنسان الذي لا زال حياً وينطلق في مدارج الحياة ويتعالى في الطريق للحياة فهو الإنسان الذي آمن بالله ، فإذا جاء في الرواية عن علاقة الإمام (ع) بالمؤمن فلا تظنوا أنه ليس له علاقة بالحياة !! .. بل له علاقة بالحياة بحسب امتدادها . فالحياة تمتد في أوساط معينة ، أما الآخرين فقد حرموا أنفسهم من هذا الطريق .
الرواية الأولى (( عن رميلة - هو أحد أصحاب الأمير (ع) - يقول : وعكت وعكاً شديداً فوجدت من نفسي خفة في يوم جمعة فقلت : لا أعرف شيئا أفضل من أن أفيض على نفسي من الماء أصلي خلف أمير المؤمنين ، ففعلت .. ثم جئت إلى المسجد فلما صعد أمير المؤمنين المنبر عاد عليّ ذلك الوعك ، فلما انصرف الأمير عليه السلام ودخل القصر الذي كان يجلس فيه و دخلت معه فقال لي (ع) : يا رميلة .. رأيتك وأنت متشبك بعضك في بعض ، فقلت نعم ، فقصصت عليه القصة التي كنت فيها والتي حملتني على الرغبة في الصلاة حوله فقال (ع) : يا رميلة .. ليس من مؤمن يمرض إلا مرضنا لمرضه ولا يحزن إلا حزنا لحزنه ولا يدعوا إلا أمنا لدعائه ولا يسكت إلا دعونا له ، فقلت له : يا أمير المؤمنين هذا لمن معك في القصر ؟ - أي إذا كنت معك في القصر فقط ؟ - أرأيت من كان في أطراف الأرض ؟ .. فقال (ع) : يا رميلة .. ليس يغيب عنا مؤمن في شرق الأرض ولا غربها )) ¤بصائر الدرجات : ص72 ..
الرواية الأخرى ، (( قال أبي ربيع الشامي صاحب الإمام الصادق (ع) : بلغني عن عمر ابن الحمق ، فقال الصادق (ع) : اعرضه علي ، قلت : دخل على أمير المؤمنين (ع) فرأى صفرة في وجهه فذكر وجعا به فقال له (ع) : إن لنفرح لفرحكم ونحزن لحزنكم ونمرض لمرضكم وندعوا لكم وتدعون فنؤمن ، قال عمر ابن الحمق : قد عرفت ما قلت لكن كيف ندعوا فتؤمن ؟ فقال (ع) : إن سواء علينا البادي - أي البعيد - والحاضر .. فقال الإمام الصادق عليه السلام : صدق عمر )) ..¤بحار الانوار مجلد : 26.
هاتان الروايتان تدلان على إن إمام كل زمان يرتبط بأهل الحياة في زمانه ، فالإمام إمام كل زمان يعيش نبض الحياة عند غيره ، فإذا ضعفت تلك الحياة يستشعرها ويدركها ..( إن لنفرح لفرحكم ونحزن لحزنكم ونمرض لمرضكم ).. وهذه الحالة أعلى من مجرد العلم والشفقة ، لأن الإمام عليه السلام يعيشها ويستشعرها .
💥 الخلاصة :
🔸الحياة الأصيلة هي الدافع للترقي في مراتب الحياة .
🔸القدرة والحياة وجهان لعملة واحدة وكلما كانت الحياة أصيلة كانت القدرة فاعلة في رفع درجات الترقي للحياة .
🔸الحياة الدنيا أدون مراتب الحياة والتعلق بها يعيق الترقي .
🔸فيض الحياة هو الإمام (ع) ونحن نحتاج إلى فيضه للترقي وتحصيل الكمالات .
وصلى الله على نبينا محمد وآله الميامين وسلم تسليما ..
✨
☄✨☄✨☄✨☄