ا
لتوالد الذاتي للمعرفة عند الشهيد الصدر
✒بقلم : الشيخ /مجتبى الطاهر النمر
ذكرى إحياء الشهيد ال(36)
الصدر من الشرق إلى الغرب
( 1437ه – 2016م )
تناول الشهيد الصدر في كتابه "فلسفتنا" تيارين فلفسيين هامين يطرح كل منهما نظريته المعرفية الخاصة به في ما يرتبط بالاعتقادات والأفكار الموضوعية وكيفية تحققها ونموها وتكاثرها و معيار حقانيتها وما إلى ذلك ، وقد أعمل عليهما مجهر البحث والتحقيق العلمي ، بعد التعريف بمباني كل واحد من هذين التيارين والأسس الفلسفية التي يقوم عليها ، وقد عبّر عنهما بالمذهب العقلي والمذهب التجريبي ، وربما أراد باستعمال مفردة "المذهب" في هذا التركيب الاضافي الإشارة إلى أن داخل كل واحدة من هذين التيارين مدارس متعددة تشترك في أصول واحدة متفق عليها وتختلف في كثير من التفاصيل .
*أما المذهب العقلي: فهو يعتمد على تصنيف المعارف والقضايا التي يدركها العقل إلى نوعين رئيسين :
قضايا أولية بديهية تضطر النفس إلى الإذعان بها دون أن تطالب بدليل أو برهان على صحتها , مثل استحالة اجتماع النقيضين و أن الكل أكبر من الجزء، ومعارف نظرية كسبية وهي قضايا العلوم المختلفة مثل أن الأرض كروية و الحركة سبب الحرارة ، والقاعدة الأساسية للعمل الفكري بحسب المذهب العقلي هو المعارف الأولية هذه ، حيث تبتني جميع المعارف النظرية عليها وتنتهي إليها ، ومن ثم تنمو وتتفاقم في تضاعف مطرد ، وتقاس صحة كل فكرة على ضوء المعارف الأولية – بما فيها نتائج التجربة نفسها ، كما أن السير الفكري وفقاً للمذهب العقلي هو نحو سير تدريجي يتم فيه الانتقال من حقائق موضوعية عامة مثل (الحديد يتمدد بالحرارة) إلى حقائق أخص منها مثل (هذه حديدة ، فهي تتمدد بالحرارة) ، و يجري هذا المنطق –السير من الكليات إلى الجزئيات- على جميع العمليات الفكرية والتي تشمل في ضمنها التجربة أيضاً .
*أما المذهب التجريبي: فهو لا يعترف بمعارف قبلية –بحسب السيد الشهيد- ، ويرى أن التجربة هي المصدر المعتمد للمعارف البشرية ، وهو أيضاً الأساس الوحيد للحكم على الأفكار بالصحة والخطأ، وبالتالي فهو يقصر طاقة الفكر البشري على حدود الميدان التجريبي ، ويبني العملية الفكرية – بعكس المذهب العقلي- من خلال السير من الجزئيات إلى الكليات ، أي أنه يعتمد على الطريقة الاستقرائية فقط في الاستدلال والتفكير.
وتقسيم الفلاسفة إلى عقليين وتجريبين تقسيم مشهور وشائع ذكره كثيرون ، وأبرزوا أوجهاً متقاربة في الفارق بين كل من هذين المذهبين العقليين ، من جملة من تناول ذلك أيضاً برتراند راسل حيث ذكر أن المعالم العامة التي تميزت بها التجريبية عن التيار العقلي بحسب راسل ترجع إلى نقطتين أساسيتين :
- أولها: أنها لا تصدر من موقف مسبق يفوض العقل إمكانيات مطلقة تستند إلى قاعدة الأوليات والمسبقات التي يمتلكها ، بل تسعى لتأطير دائرة عمل العقل والبحث في حدود إمكانيته .
- وثانيهما: التأكيد على عنصر التجربة الحسية ، إلا أنه حرص على أن لا يتم التعامل مع هذا التصنيف بإفراط وحدية ، إذ يمكن أن تجد فيلسوفاً عقلياً بنزعة تجريبي وميل استقرائي ، والعكس صحيح .
وقد كان السيد الشهيد في كتاب فلسفتنا منتصراً لخيارات المذهب العقلي ومدافعاً عنها وملتزماً بجميع بنودها ، إلا أنه قد حصلت عنده تغيرات بنيوية في نظريته المعرفية حملته على أن يمايز بين هذه النظرية و بين نظرية المذهب العقلي ، وقد طرأ عليه ذلك في محاولته الحثيثة لحل مشكلة الاستقراء .
إن نظرية الشهيد الصدر التي طرحها في كتابه "الأسس المنطقية للاستقراء" قد تكون المحاولة الإبداعية الوحيدة الجديرة بالطرح التي أثيرت في الشرق المعاصر لحل مشكلة الاستقراء ، وهي تتركب من عناصر مفصلة ومترابطة ، بحد يتحتم فيه أن تكون أي محاولة لإجمال هذه النظرية مخلّة ببعض جوانبها ، ولذلك لا ندّعي أن ما سنعرضه يفي بإبراز هذه النظرية بصورتها الكاملة ، بل ربما كان يصلح لإعطاء تصور على سبيل التمييز لا التعريف .
يطرح الشهيد الصدر في نظريته أسلوباً لم يكن متعارفاً في الأبحاث المنطقية لكسب ونمو المعرفة ، وبصورة أوضح فإنه يطرح اتجاهاً جديداً في نظرية المعرفة يختلف عن الاتجاه العقلي والاتجاه التجريبي ، يطلق عليه اسم المذهب الذاتي .
وهذا الاتجاه يتفق مع الاتجاه العقلي على وجود معارف أولية عقلية مستقلة عن الحس والتجربة ، وأن هذه المعارف تشكل القاعدة الأساس للمعرفة البشرية ، لكن ضمن توجيه وتفصيل تفرد به ، لكنها تختلف مع هذا الاتجاه –العقلي- اختلافاً أساسياً في تفسير نمو المعرفة ، والطريقة التي يمكن من خلالها استخلاص قضايا جديدة من المعارف القبلية في بناء متكامل تصاعدي ، إذ أن المذهب العقلي لا يعترف إلا بطريقة واحدة ، وهي ما يسميها الشهيد الصدر طريقة التوالد الموضوعي ، بينما يرى المذهب الذاتي وجود طريقة ثانية لنمو المعرفة هي طريقة التوالد الذاتي ، بل أن الجزء الأكبر من معرفتنا يمكن تفسيره على أساس الطريقة الذاتية في توليد المعرفة .
والتفريق بين هاتين الطريقتين يعتمد على ملاحظة انحلال كل معرفة إلى جانبين ، ذاتي وهو الإدراك الذي نتوفر عليه ، وموضوعي وهو القضية التي أدركناها وأثبتنا لها واقع عيني بصورة مستقلة عن الادراك ، والمراد من التوالد الموضوعي هو الانتقال من قضية موضوعية إلى أخرى على أساس ما يثبت بينهما من تلازم ، أي على قاعدة أن أحد الحقيقتين الموضوعية تستلزم ثبوت الحقيقة الموضوعية الأخرى ، ويرجع إلى هذا النحو من التوالد جميع الاستنتجات القائمة على القياس الأرسطي ، لأن النتيجة في القياس دائماً ملازمة للمقدمات التي يتألف منها القياس .
أما طريقة التوالد الذاتي فهي تعني أن بالإمكان توليد معرفة على أساس معرفة و إدراك آخر ، دون أن يثبت أي تلازم موضوعي بين متعلق المعرفة الأولى ومتعلق المعرفة الثانية ، أي أن التلازم الذي يتيح لنا الانتقال لمعرفة جديدة هو التلازم بين الجانبين الذاتيين للمعرفة والذي لا يستند بالضرورة أو يتبع التلازم بين الجانبين الموضوعيين للمعرفة .
المنطق الأرسطي يرى -بحسب الشهيد الصدر- أن ما يتورط فيه الفكر البشري من الخطأ في الاستدلال يرجع إلى شكلين رئيسين ،الأول منهما هو استعمال طريقة التوالد الذاتي ، أي استخلاص نتيجة من مقدمات صادقة لا تلازم موضوعي بينها ، والثاني استعمال طريقة التوالد الموضوعي مع كذب المقدمات ، أو بتعبير المنطق الأرسطي نفسه فإن الخطأ في الاستدلال يرجع إما إلى صورة القياس حيث لا تستند إلى ربط موضوعي سليم للمقدمات ، أو إلى مادة القياس أي إلى المقدمات التي تؤلفه .
ولذلك وجد المنطق الأرسطي نفسه مضطراً في تبرير الاستدلال الاستقرائي في إرجاعه إلى طريقة التوالد الموضوعي وإلباسه صورة قياسية تشتمل على مقدمة كبرى تنفي امكان تكرر الصدفة النسبية على خط طويل, وصغرى مستمدة من الخبر الحسية تفيد أن (أ) و (ب) اقترنا باستمرار على خط طويل ، حتى يتلافى ما يجده بناءاً على قصر المعرفة بالتوالد الموضوعي من أن مجرد حالات الاقتران المتكرر الذي تعطيه التجربة لا يكفي لوحده لتوليد معرفة جديدة وإفادة أي تعميم استقرائي ، لعدم التلازم الموضوعي بين تلك المقدمات و بين التعميم.
يمكن التمثيل للمعارف الثانوية المستنتجة من الأوليات القبلية على أساس التوالد الموضوعي بنظريات الهندسة الأقليدية ، وطريقة التوالد الذاتي تقرر إمكان استنتاج معارف مولّدة من القبليات على أساس التلازم الذاتي ، ومثالها هو التعميمات الاستقرائية ، وهذا المثال مهم لأنه يبرهن للمذهب العقلي بعد إبطال إمكان تحقيق تعميم استقرائي اعتماداً على التوالد الموضوعي ، أن ثمة طريقة أخرى في نمو المعرفة هي طريقة التوالد الذاتي ، ومالم يعترف المذهب العقلي بهذه الطريقة وباختلافها عن طريقة التوالد الموضوعي و عدم إمكان إخضاعها لضوابط المنطق الصوري الذي يعالج التلازم بين أشكال القضايا ، فلن يستطيع أن يصل إلى أي تعميم استقرائي .
ينبه الشهيد الصدر أن فتح أساس جديد للمعرفة لا يستند للتلازم الموضوعي ليس دعوة للفوضى في الاستدلال وربط أي شيء بأي شيء دون تقيد بأي تلازم ، فنستنتج مثلاً بأن زيد قد مات من أن الشمس طالعة ، بل ما يرمي إليه هو أن هناك جزء عريض من المعرفة التي يؤمن بها العقليون أنفسهم لم تتكوّن على أساس التوالد الموضوعي – كما وضحه من خلال الإشكالات التي أوردها على نظرية التجربة الأرسطية - ، وإنما تكونت على أساس آخر هو ما يعبر عنه التوالد الذاتي .
إذن المنطق الأرسطي ليس قادر على الجواب على المسألة الأساسية التالية : كيف يمكن أن نميز بين الحالات التي يكون فيها استنتاج قضية من قضايا أخرى بدون تلازم موضوعي – كما في التعميم الاستقرائي- صحيحاً ، وبين الحالات التي لا تكون كذلك . والذي ينهض بهذا المهم هو المذهب الذاتي .
يتبع