عرض مشاركة واحدة
  #12  
قديم 12-03-2014, 04:21 PM
فاطمة الجشي فاطمة الجشي غير متواجد حالياً
Member
 
تاريخ التسجيل: Oct 2013
الدولة: الجبيل
المشاركات: 47
Post مناقشة مختصرة لنظرية الشورى (8)

سيدا من السادة - 8
مناقشة مختصرة لنظرية الشورى

(اَللّـهُمَّ إنّي أشْهَدُ اَنَّهُ وَلِيُّكَ وَابْنُ وَلِيِّكَ وَصَفِيُّكَ وَابْنُ صَفِيِّكَ الْفائِزُ بِكَرامَتِكَ، أكْرَمْتَهُ بِالشَّهادَةِ وَحَبَوْتَهُ بِالسَّعادَةِ، وَاَجْتَبَيْتَهُ بِطيبِ الْوِلادَةِ، وَجَعَلْتَهُ سَيِّداً مِنَ السادَةِ، وَقائِداً مِنَ الْقادَةِ، وَذائِداً مِنْ الْذادَةِ).

بعد أن استعرضنا أهم الأدلة الكلامية على ولاية الفقيه في زمن الغيبة لبداهة الدليل الأول وسهولته , وعلو مقام الدليل الثاني وأهميته , نستعرض الآن النظرية الثانية التي ربما تأتي في الأهمية -من حيث المدعى- كخيار بديل عن نظرية ولاية الفقيه , وهي نظرية الشورى .

ما هي نظرية الشورى؟
أصحاب هذه النظرية يقولون أننا لا نقبل بأن الشارع يرضى بالفوضى وعدم النظام في زمن الغيبة , ولا نقبل بأن الشارع قد ترك الناس مهملين، لكن ليس لدينا دليل على أن الموقف الشرعي ينحصر في مسألة ولاية الفقيه . لذا نحن نذهب إلى نظرية أخرى.

أدلة نظرية الشورى :

يستدل أصحاب هذه النظرية على مسألة الشورى بآيتين من القرآن هما قوله تعالى ﴿.. وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ..﴾ [الشورى: 38] وقوله تعالى ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: 59].

الدليل في الآية الأولى/ أن الآية جاءت في مورد المدح للمجتمع الإسلامي , والجملة وأن كانت إخبارية لكنها تفيد الإنشاء. فعندما يمدح القرآن المؤمنين مثلا فهو يخبر عنهم بقوله ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ [المؤمنون:1-2] هذا الإخبار والوصف يستبطن الإنشاء ويريد: كونوا في صلاتكم خاشعين. والأمر كذلك في الشورى , فحين يمدح القرآن المجتمع الإسلامي بأن أمرهم شورى بينهم فهو يدعوهم إلى اتخاذ هذا المنهج , خصوصا مع ضم الآية الثانية إليها ، التي تأمر صراحة بالمشورة (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ).

الدليل في الآية الثانية/ أن لفظ الأمر يمكن أن يشمل كل شيء , فكلمة أمر تفيد العموم، وعندما يأمر الله سبحانه رسوله بمشاورة المسلمين في الأمر –مع إطلاق هذا الأمر- فهذا يعني شاورهم في كل الشؤون بما فيها أمور الحكومة والقيادة.

مناقشة الأدلة:

الأدلة السابقة تريد الوصول إلى عدم انحصار شكل الحكومة في زمن الغيبة بولاية الفقيه وتطرح نظرية الشورى , إلا أن هذه الأدلة لا تصمد أمام النقاش العلمي.

مناقشة الآية الأولى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)

إذا كانت الآية في مقام المدح والثناء على تركيبة المجتمع الإسلامي وأخلاقياتهم وأن أمرهم شورى فيما بينهم , فلنا أن نسأل: هل إن القيادة من أمرهم أو من أمر الله سبحانه وتعالى؟

والجواب: لقد أوردنا الأدلة في المحاضرات السابقة على أن شأن الولاية والحكومة ليس من شؤون الناس , بل من شؤون الله سبحانه وهي جعل إلهي من أمر الله ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً﴾ [ص: 26]. وهناك فرق بين الأوامر التي تتعلق بالناس ، والأمور التي تتعلق بشأن الأفعال الإلهية.
ثم إن تعيين القيادة فعل الله سبحانه وتعالى، وهنا نسأل: هل يمكن أن يكون الأمر شورى في ما هو مختص بالله سبحانه؟

لقد أوردنا الأدلة -فيما سبق- على أن شأن الحكومة هو شأن إلهي ، بل إن الأمر ليس ذلك فحسب فحتى القيادة الخاصة في مسائل الحروب يعتبرها القرآن جعلا إلهيا , يقول سبحانه وتعالى عن حرب طالوت وجالوت ﴿.. إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا.. ﴾ [البقرة: 246] فمع أنها حرب مؤقتة لكن اختيار القيادة كان إلهيا , لأن القيادة من الأحكام الإلهية وزمامها بيد الله سبحانه وتعالى وليست من أمور الناس.

من جهة أخرى هناك قاعدة أصولية تقول: (لا يجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية) ومعنى ذلك أن الشارع إذا أصدر أمرا وشككنا في انطباقه على المصداق فلا يجوز أن نتمسك بذلك الأمر.

ولنوضح بمثال، عندما يقول الشارع: توضأ بالماء الطاهر , فهذا أمر ، فإذا شككتَ في السائل الموجود في الخارج هل هو ماء أو ليس بماء فلا يجزي أن تتوضأ به . الوضوء بالماء الطاهر حكم عام لكن لا يمكن إجراؤه على مصداق مشتبه فيه.

الآية هنا تقول: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) وهذا حكم عام، لكن مسألة الحكم والقيادة – مع افتراض عدم الأخذ بالأدلة الكلامية – هي مسألة نشك فيها هل هي من أمر الله أم من أمر الناس , فالمسألة فيها شبهة مصداقية , فلا يجوز أن نجري عليه الحكم العام المطلق في الآية.

مناقشة الآية الثانية:

1. ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: 159] بالنظر إلى سياق الآية سنلاحظ أنه لا يجري في سياق الحكومة , بل في سياق الحديث عن واقعة أحد , وتحدد هدف المشركين من هذه المعركة الذي يتمثل في القضاء على قيادة الدولة الإسلامية وتحكيه الآية ﴿مَا كَانَ لأَهل المَدينَة وَمَن حَولَهم مّنَ الأَعرَاب أَن يَتخلّفوا عَن رَّسول اللّه وَلاَ يَرغَبوا بأَنفسهم عَن نفسه﴾ [التوبة: 120] والسورة تتكلم عن أغراض حرب المشركين للمسلمين: الغرض الأول: القضاء على الدولة الإسلامية , والغرض الثاني: القضاء على قائد الدولة الإسلامية رسول الله صلى الله عليه وآله. في هذا السياق يكون الحديث عن الأمر ، فالآية في سياق الحديث عن الدولة الإسلامية والحاكم الإسلامي ، إذ لا يوجد أمر أهم من ذلك.

2. الآية في معرض الحديث عن أخلاقيات رسول الله (ص) وبيان شمولية رحمته بدليل أنها بدأت بالجار والمجرور الواقع في محل نصب المفعول والحال أن محله التأخير ، (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ) والتقدير: لِنت لهم برحمة الله ، والغاية من التقديم تعظيم هذه الرحمة المحمدية التي تعد أكبر نعمة على وجه الأرض لذا تتقدم , فهي بعد أخلاقي من شخصية رسول الله صلى الله عليه وآله.

3. الأمر بالشورى في الآية واقع في سياق مجموعة من الأوامر (فاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ) ثم قال (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ﴾ وإذا افترضنا أن الأمر هو الحكومة فالآية تقر أن ذلك متوقف على عزم رسول الله لا على الشورى .

الشورى صفة من صفات القيادة
بعد مناقشة هذا الدليل واتضاح أن الأمر بالشورى في الحكومة ترده عدة أدلة لنا أن نتساءل: ما هو معنى الشورى هنا وما هو موقعها؟

الشورى هنا تعطينا خصوصيات القائد، خصوصا مع ما قلناه من أن هذه الآية نزلت في معركة أحد ، بعد أن فر المسلمون وتركوا رسول الله (ص) وحيدا فريدا ، الآية التي نزلت قبلها تقول ﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ﴾ وأكبر كبيرة يمكن أن يقوم بها الإنسان هي أن يفر من الزحف ويترك رسول الله (ص) منفردا . الدفاع عن رسول الله أوجب من الدفاع عن الكعبة وأوجب من الدفاع عن الدولة الإسلامية لأنه لا تقام الدولة دونه.

جاءت الآية تبين لنا تعاليم القرآن لرسول الله في كيفية تعامله (ص) مع ذنب هؤلاء ، ودور هذا التعاطي النبوي في تنمية الاستعداد وترقية المجتمع.
(فَاعْفُ عَنْهُمْ) لأنك فيض الرحمة الإلهية . والعفو هنا مقابل القصاص فهم كانوا يستحقون القصاص , ثم يقول (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) لتمحو الأثر التكويني لخطيئتهم , فالقصاص مجرد فعل قانوني لا يمحو الآثار التكوينية للخطيئة في نفس المجرم , لكن استغفار رسول الله (ص) يفعل ذلك . ولا شك أن هناك فرق بين استغفار رسول الله لنفسه واستغفار الإنسان لنفسه , فحين يستغفر لنفسه قد يقبل استغفاره وقد لا يقبل , لكن استغفار رسول الله يحقق المغفرة لا محالة لأن الآمر كامل والمأمور أيضا كامل .

وفي هذا السياق الذي يعالج به رسول الله خطيئة هؤلاء تقول الآية (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) وهذه مرتبة ثالثة في العلاج تتمثل في إعادة بنائهم الاجتماعي , فمشاورتهم تعني إعطائهم موقعا ومكانة اجتماعية . لأن الخطيئة تسبب السقوط الاجتماعي بل حتى سقوط المذنب عند نفسه ، والشورى تعيد هذا البناء النفسي والاجتماعي للمجرم بعد العفو والاستغفار.

من هنا تبين أن أهمية الشورى ليست في أصل الحكم وانتخاب القائد، بل في بناء التركيبة الاجتماعية . وذلك لأن الشورى :

(1) تقرب بين الأفكار والقلوب .
(2) تعطي المستشار موقعية اجتماعية وتنفخ فيهم روح الإحساس بوجودهم وحضورهم .
(3) تحقق نوع من التحرز عن الوقوع في الدكتاتورية والاستبداد بالرأي .
(4) تعطي المستشار نوعا من السلامة النفسية واعتدال المزاج , وتخرجه من الفهم العرفي المحلي وتعطيه مهارة التعمق في قراءة الأمور.
(5) تعطي المستشارين نسبة من الاشتراك في القرارات التنفيذية الذي يجعل لهم نصيبا من تحقيق أي نصر أو إنجاز؟

إذن (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) أي استخرج إمكانيات وطاقات كل واحد منهم , فأصل الكلمة في اللغة تستخدم في استخرج العسل , فإذا شاور رسول الله أصحابه فهو يستخرج عسلهم من حكمة و بصيرة ووعي ويكون رأيه (ص) ورأيهم نورا على نور .

إذن المشورة إبراز الاستعدادات و التمرين عليها وإعلاء سقف الفطنة والفهم ، وبناء هذا الاستعداد سببه رحمة رسول الله (ص) (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ). ثم تقول الآية (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ). قبل شرح هذه الآية سأقرأ لكم بشكل سريع جداً صفات أحد القادة المعاصرين كما جاءت في دراسة لهذه الشخصية من قبل مركز دراسات لتحليل شخصيات القادة:

الصفة الأولى: المبادرة في سبيل الله لخلق الفرصة والخيارات للجهاد في سبيل الله. وهذه صفة مهمة جدا , فأغلب الناس ينتظرون من يخلق لهم فرصة ويضعهم في ظرف الإحساس بالمسؤولية أو أداء الدور.

الصفة الثانية: إظهار الشعائر الدينية. فرغم كون هذا الشخص قائدا عسكريا كبيرا ، لكن لو تطلب الأمر أن يقرأ النعي في مصيبة الحسين أو أن يفعل اي شيء في هذا المجال فهو حاضر وفعال وهذه هي الرسالية التي تعني أداء الدور الذي تحتاجه المرحلة .

الصفة الثالثة: اللين , حتى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيناقش الضالين بأسلوب فيه مزيج من الثقافة والذكاء والحب والدعابة حتى استطاع استقطاب خصومه فضلا عن محبيه.

الصفة الرابعة: الحزم والشدة والشجاعة في اتخاذ القرارات

في ضوء هذه الخصائص التي تجسدت في قيادة قريبة منا وفي أوساطنا دعونا نقرأ الآية (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) سنرى أن القيادة الناجحة في الحقيقة لا تنظر إلى أمر يردها عن عزمها , وإذا وصلت إلى الرأي فلا تتردد في إمضائه.

بعد هذا الاستعراض تبين أن الشورى ليست في معرض الحديث عن تعيين القيادة , بل هي سلوك قيادي يبني الأتباع , وصفة من صفات القائد الواقعي , وأن الآيات تتكلم عن أخلاق هذه القيادة ورحمتها وموقعها ، وهذا الذي كان يلمسه جميع المسلمين.
رد مع اقتباس