وجعلته سيدا من السادة (6)
السيرة العقلائية وتعيين القائد
تحدثنا عن الدليل الأول لإثبات نظرية ولاية الفقيه وهو ما أسميناه بقاعدة القدر المتيقن وقدمناه لوضوحه وبداهته ، وهو كما يجري في الولاية المطلقة للفقيه يجري في سائر التصرفات الأخرى التي ينوب فيها الفقيه عن الإمام المعصوم . وسيكون حديثنا اليوم تفصيلا لهذا الدليل البديهي .
ونظرا للزوبعة الكبيرة التي أثيرت مؤخراً حول قضية الخمس ودليل وجوبه فسيكون المنطلق من خلال هذه المسألة وفق مقدمتين:
الأولى: هل أن أخذ أمر الأئمة بتسليم الخمس من شيعتهم لهم أو لوكلائهم كان أمراً جادّاً أو هو من باب التقية , التي يفقد فيها الخطاب بالأمر لعمل معين عنصر الإرادة الحقيقية للفعل .
بلا شك ليس هناك من يقول أنهم عليهم السلام أخذوا الخمس تقية. فالعقل يدرك جدّية الشارع المقدّس في تشريع الأحكام ويدرك أيضا إطلاق تلك الأحكام ويجزم بضرورة استمرار العمل بها حتى في حال عدم وجود المعصوم .
الثانية : لم ترد هناك تقييدات في أوامر المعصوم وسلوكه في قبض الخمس تفيد أنه لزمان معين , وعدم ورود التقييد في الأحكام يفيدنا إطلاق هذه الوظيفة وعموميتها .
بناء على هاتين المقدمتين نقول: أن العقل يقضي بأن الشارع سيد العقلاء وهو جادّ في هذا الأمر ، ونفس العقل يقول أيضا أن هذا الحكم مطلق بمقدّمات الحكمة وعدم وجود التقييد , ثم يرشدنا إلى كيفية تطبيق هذا الحكم وفق قاعدة القدر المتيقن , فيجب أن ننتخب الشخص الذي نعتقد أنه الأعلم بموارد الصرف التي يريدها الإمام المعصوم .
إذن , ذات الارتكاز العقلائي يجعل أي إنسان يؤمن بهذه المنظومة العقائدية (1) يختار بعقله المرجع الأفقه والأعدل والأعرف بموارد الصرف , ينتخبه ويسلمه أمواله دون شك أو ريب , أعتقد أن من أدق ما ورد هنا هو رأي السيد الخوئي في كتاب الخمس إذ لا يرى وجوب تسليم الخمس إلى المرجع الذي يقلده الإنسان , وفي نظره أنه يجب أن يعطيها للأعرف والأعلم بموارد الصرف.
إذن الإنسان يختار من يقلد بناء على رأيه، ويختار من يعطيه الخمس , وله رأي في مورد الولاية وتعيين الولي الفقيه. فرأي الإنسان له وزن واعتبار في الشرع وهو ليس مُقصىً ولا مبعدا .
وهذا يعتمد على ارتكاز عقلائي يقضي بأن العقل نفسه يدل الإنسان على الرجوع في زمن الغيبة إلى من هو أعلم وأعرف منه، هذا مقتضى العقل والإدراك، وإذا جاء نص ديني على ذلك فإنه لا يعتبر دليلا وإنما يعتبر مؤكدا على حكم العقل، ومرشدا إلى هذا الارتكاز العقلائي.
إذن فالتشكيك في مسألة الخمس هو ما يحتاج إلى دليل، وما هذه الإثارات حول مسألة الخمس إلا مرض في القلوب.
بعد بيان وجوب تحصيل القدر المتيقن من أجل إمضاء حكم كوجوب الخمس نقول: أن ذات القاعدة تجري في تعيين الولي الفقيه في زمن الغيبة , فكما ينتخب الناس المرجع بالطرق العقلائية والرجوع لأهل الخبرة ويسلمون له الخمس لأنهم يستأمنونه على الحقوق الشرعية في غيبة المعصوم , فهم أيضا ينتخبون من يسلمونه زمام القيادة نيابة عن المعصوم عليه السلام.
كيف يشخّص الناس القائد ؟
بعد إثبات أن العقل يقضي بالعمل وفق قاعدة القدر المتيقن في تحديد القيادة في زمن الغيبة يتبادر سؤال عريض مفاده: كيف يمكن لعامة الناس تشخيص خصائص الأجدر بالقيادة (2) والأعلم والأفقه والأكفأ في التدبير والإدارة والأكثر تقوى وعدالة روحية ؟
لقد قلنا أن أهم صفات القيادة:
أولا: العلم والمعرفة التفصيلية بالأحكام الشرعية وردّ المستجدات إلى الأصول .
الشرط الثاني: التقوى، وهي من أهم الشروط، لأن القيادة بلا مواصفات باطنية هي مورد لإيقاع الناس في المفسدة، أمير المؤمنين عليه السلام وهو يقيم الشاهد على عدم صلاحية الثلاثة المتقدمين الذين كانوا قبله، لم يأت بآية ولا رواية في انحصار القيادة، بل تكلم عن عدم صلاحيتهم في الجانب الأخلاقي قال: "إِلى أَنْ قَامَ ثَالِثُ القَوْمِ، نَافِجًا حِضْنَيْهِ بَيْنَ نَثِيلهِ وَمُعْتَلَفِهِ" (3) فديدنه جمع الأموال وصرفها والاستئثار بالفيء . هذه سلوكيات تخالف القيادة, فالقيادة يجب أن تكون مأمونة وليس العلم هو ما يحقق الأمان من التحزب والفئوية والخطيّة، المؤمّن هو الخوف من الله وخشيته سبحانه.
هذه الصفات هي التي تحقق السيادة والصيرورة الباطنية، وهو ما أسميناه بالجعل، الذي هو في المعصومين تكوينا وفي المراجع على نحو التشريع .
الشرط الثالث: الكفاءة في الإدارة، -وبها تكتمل شروط القيادة- وهي القدرة على تشخيص الواقع الخارجي والتعاطي معه وفق ما تقتضيه مصلحة الأمة . من تقديم الأهم على المهم وتشخيص كبريات الأمور بحيث يعرف القائد متى يقدم ومتى يحجم , متى يعلي سقف الخطاب ومن يخفضه , متى يواجه ومتى لا تكون المواجهة من المصلحة . ولا يراعي في ذلك أي مصلحة فئوية .
هذه الشروط الثلاثة يدركها العقل , والعقل أيضا يقرر الطريق لإحرازها . فهو يقول أنه إذا لم يتمكن من تحقيق المصلحة 100% فيجب أن يسلك الطريق الأقل ضررا , وفارق بين كمال المصلحة والبحث عن الطريق الأقل ضررا .
لاحظوا الفرق بين تشخيص المصلحة والمفسدة، يقول أمير المؤمنين عليه السلام: (ليس العاقل من يعرف الخير من الشر ولكن العاقل من يعرف أهون الشرين) وفي كلام للإمام الصادق ما يحكي نفس المضمون ويضيف أن معرفة الخير من الشر ليس هو العقل لأن البهيمة تشترك مع الإنسان في معرفة ذلك وتتقي ما يسبب لها الهلاك.
الشاهد أنه بعد ما أقدمت عليه الأمة من إقصاء الأمير وقتل الزهراء وسم الإمام الحسن والحرمان من هذه النعمة العظمى لم يبق لها في زمن الغيبة إلا اللجوء للأجدر بإدارة الأمة . وهذا ارتكاز عقلائي كما قلنا لا يستدعي الرجوع إلى النصوص الدينية .
لكن السؤال: ما هو الطريق العقلائي للتعرف على من يتمتع بصفات القيادة والإنابة عن المعصوم ؟
الكثيرون يعتقدون أن هذا يحصل بالانتخاب العام ، فمن أحرز الآراء الأكثر فهو أصلح . لكن هنا هذا الطريق غير سليم لسببين :
1. أنّ الانتخابات في أكثر البلدان حرية هي معرض للبيع والشراء ، وللإعلام دور كبير في الترويج لأي مرشّح مما يؤدي إلى فوضى فكرية , فضلا عن كون الإعلام قوة تحتاج إلى المال. ومن شروط القائد أنه (لا يُضَارِعَ ، وَلا يُصَانِعُ ، وَلا يَتَّبِعُ الْمَطَامِعَ) . ثم إن طريق الانتخابات قائم على الديمقراطية الرأسمالية التي يكون القوي فيها وصاحب التأثير هو صحاب الأموال .. هذا الطريق لا يمكن اعتماده في تعيين القائد.
2. أن الناس غير متساويين في تعيين الشخص الذي تتوفر فيه صفات القيادة , مع النظر إلى تأثر عامة الناس بالرضا والغضب , فيمكن أن تكره الناس شخصا أو تحبه من أجل موقف!
3. إن القدرة العلمية والإدارية والعدالة الأخلاقية لا يمكن لسائر الناس تشخيصها، فتحديد المستوى العلمي يحتاج لمختصين , كما أن تشخيص الطبيب الحاذق يقوم به مجموعة أطباء , وكذلك معرفة الخصائص الباطنية تحتاج إلى صاحب وجدان خاص وإدراك دقيق.
إذن فالانتخابات ليست ميزانا دقيقا لانتخاب القائد , وكلها لا تعدو أراء ظنية سطحية ، ليست مبنية على علم .
أهل الخبرة هم من يحدد الولي الفقيه
بعد أن عرضنا أسباب عدم صلاحية الانتخابات العامة لتحديد الولي الفقيه نستعرض الطريقة المثلى , وهي طريقة عقلائية بديهية تتمثل في الرجوع إلى الخبراء . هذا الطريق يعطي صلاحية نسبية واطمئنانا نسبيا للانتخاب، لأن هؤلاء الخبراء عدول , ولديهم قدرة علمية لتشخيص الأعلم، ويمتلكون حكمة في تشخيص مصلحة الأمة ورغبة واقعية في تحقيق هذه المصلحة .
لكن لا تنتهي السلسلة هنا , إذ يواجهنا سؤال آخر : من ينتخب هؤلاء الخبراء؟
الحقيقة أن الناس هم من يعين هؤلاء الخبراء, وقد تشكّل مجلس الخبراء في الجمهورية الإسلامية من خلال انتخاب أهل كل منطقة من يثقون به ومن يرونه الأصلح والأجدر . وهذا الأسلوب في الانتخاب تؤيده سيرة العقلاء ومذاق الفقهاء , فالقاضي المنصوب للقضاء يذهب لمنطقة ما لفصل الخصومة , وأكثر ما يستند إليه هو البينة ، أي شهادة العدول , لكنه لا يمكن أن يستند إلى شهادة من لا يعرف , وطريقه للتعرف على الشهود هو من خلال عامة الناس . الرجوع إلى الناس في مرحلة من المراحل هو الطريقة الطبيعية ، وعين هذا الأمر الطبيعي العقلائي هو أساس انتخاب الخبراء .
فالناس تنتخب العدول الذين تثق بهم ثم هؤلاء العدول ينتخبون بخبرتهم الولي الفقيه . بالنتيجة فإن للناس دخالة مباشرة في تعيين الولي الفقيه من خلال انتخاب الخبراء الذين يشكلون المجلس الذي ينتخبه ويراقب مسيرته .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــ
(1) عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه قال: كنت عند أبي جعفر الثاني عليه السلام ــ أي الإمام الجواد عليه السلام ــ إذ دخل عليه صالح بن محمد بن سهل وكان يتولى الوقف بقم فقال: يا سيدي اجعلني من عشرة آلاف درهم في حلٍّ فإني قد أنفقتها، فقال له: أنت في حل، فلما خرج صالح، قال أبو جعفر عليه لسلام: أحدهم يثب على أموال (حق) آل محمد وأيتامهم ومساكينهم وأبناء سبيلهم فيأخذه ثم يجيء فيقول أجعلني في حل، أتراه ظن أني أقول لا أفعل والله ليسألنهم الله يوم القيامة عن ذلك سؤالاً حثيثاً. [الكافي ج1ص 352]
(2) إشارة لخصائص القائد التي مرت في الدرس الخامس وهي : الاجتهاد – العدالة – الإدارة
(3) الخطبة الشقشقية – نهج البلاغة