وجعلته سيدا من الساده وقائدا من القاده- 4 محرم 1436هـ
السيادة روح القيادة
بعد إيضاح مفهوم الجعل سنتحدث عن موضوع الجعل وهو السيادة والقيادة .
هل هناك نكتة في تقديم السيادة على القيادة ؟
هناك قاعدة لغوية تقول : أن الأصل هو عدم ترتيب أثر على تقدم أحد المعطوفين على الآخر مالم يكن هناك تكرار في تقديم أحدهما على الآخر ، فإن لم يكن هناك تكرار في التقديم فلا يعطي للمتقدم أي أهمية أو تميز . (1)
وبتتبع سريع للأدعية والزيارات والروايات يلاحظ كثرة تقدم ذكر السيادة على القيادة . منها ما ورد في زيارة أمير المؤمنين (ع) ً اللَّهُمَّ إِنِّي أَتَقَرَّبُ إِلَيْكَ بِزِيَارَتِي إِيَّاهُ وَ أَرْجُو مِنْكَ النَّجَاةَ لِي بِهِ مِنَ النَّارِ بِهِ وَ بِآبَائِهِ وَ أَبْنَائِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ رَضِينَا بِهِمْ أَئِمَّةً وَ سَادَةً وَ قَادَةً (2)
ومنها ما ورد عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله قَالَ حُبُّ أَهْلِ بَيْتِي يَنْفَعُ مَنْ أَحَبَّهُمْ فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ مَهُولَةٍ عِنْدَ الْمَوْتِ وَ فِي الْقَبْرِ وَ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنَ الْأَجْدَاثِ وَ عِنْدَ تَطَايُرِ الصُّحُفِ وَ عِنْدَ الْحِسَابِ وَ عِنْدَ الْمِيزَانِ وَ عِنْدَ الصِّرَاطِ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ آمِنًا فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ فَلْيَتَوَالَ عَلِيّاً بَعْدِي وَ لْيَتَمَسَّكْ بِالْحَبْلِ الْمَتِينِ وَ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَ عِتْرَتُهُ مِنْ بَعْدِهِ فَإِنَّهُمْ خُلَفَائِي وَ أَوْلِيَائِي عِلْمُهُمْ عِلْمِي وَ حِلْمُهُمْ حِلْمِي وَ أَدَبُهُمْ أَدَبِي وَ حَسَبُهُمْ حَسَبِي سَادَةُ الْأَوْلِيَاءِ وَ قَادَةُ الْأَتْقِيَاءِ وَ بَقِيَّةُ الْأَنْبِيَاء. (3)
وغيرها الكثير إذ بلغت حوالي الـ 44 نصاً تقدم فيه ذكر السيادة على القيادة .
هذا من جهة , ومن جهة أخرى فإن السيادة هي روح القيادة , ولا يكون الإنسان قائداً إلا إذا كان سيّدا فالسيادة هي الأصل الذي ينبغي أن يسعى له الإنسان ليمثل الواسطية بين الله وخلقه , فلابد أن تكون نواة السيادة موجودة في من يريد حمل مشروع إلهي فعنها تتفرع إمكانيات القيادة ، وسيتضح ذلك أكثر بعد أن يتجلى لنا مفهوم السيادة .
مامعنى السيادة ؟
السيادة في اللغة :
ساد من مادة ( سود ): وهو كل ما خالف البياض . وسواد الشيء : شخصه , و إنما سمي السيد سيدا لان الناس يلجئون الى سواده .
وورد في كتاب (التحقيق في كلمات القرآن للعلامة حسن المصطفوي) أن السيادة هي : التشخص مع التفوق في مقابل أفراد أخر. اعم من المعنوي و المادي .
وفي ( مفردات الراغب ) قال : لما كان من شرط المتولي للجماعة ان يكون مهذب النفس قيل لكل من كان فاضلا في نفسه : سيدا , والسيد هو المتولي للسواد , أي : الجماعة الكثيرة.
السيادة ليست العلاقة النسبية
حين نزور الإمام بقولنا ( وجعلته سيداً من السادة ) فنحن بلا شك نعني مفهوماً مختلفاً عن السيادة النسبية لأن هذا الاصطلاح ـ السيد بمعنى ابن النبي ـ مستحدث وجديد ولا أصل له في اللغة ولا في الاصلاح الشرعي إذ إننا نخاطب الله سبحانه وتعالى بـ( يا سيد السادات ) .
نعم ، وإن عُدّ الانتساب بالولادة للنبي وللصديقة الطاهرة عليهما السلام كمالا إلا أنه كمال مشروط . وإذا كان الانبياء يدعون لذراريهم خاصة فليس لموقعية خاصة في نفوسهم لأبنائهم ، فطلب النبي إبراهيم الإمامة لذريته في الآية ( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ) البقرة : 124 و ( اجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ ) إبراهيم : 35 ، هو دعاء لأن تكون ذريته فداءً للإنسانية لأن معنى الإمامة والقيادة هو أن تقدم رأسمالك في سبيل هداية الأمة ، ومعنى ترك عبادة الأصنام والكفر بالجبت ومقاومة الطاغوت هو مواجهة ما يترتب على هذه المقاومة من نتائج من قبيل الإلقاء في النار والتحريق والتهديد والطرد والسجن والإبعاد والقتل . وهذا الدعاء إنما يستبطن الرغبة في هداية الناس فكل ذلك مقدمات لسوق الناس للحق وخلق الفرصة للناس لمواجهة الطغاة . أن يكون الإنسان ( ذبيح الله ) فهذا يحتاج الى تضحيه كبيرة وهذا ما طلبه نبي الله إبراهيم عليه السلام . ومن هذا المنطلق نجد أن الأولياء والأنبياء قد خصوا ذريتهم بالدعاء بالدرجة الاولى .
السيادة بالمفهوم الإلهي
السيادة بالمفهوم الإلهي هي الهوية الذاتية التي يحصل عليها الإنسان بعمله وسماته وشمائله . إن الجمل الواردة في الزيارة هي في مقام المدح والثناء ، ولا يكون المدح إلا على الأمور الإختيارية ولا شك أن تحصيل هذه الهويّة هو جعل وصيرورة وتحوّل جوهري يحكي الحركة التكاملية في ذات الإنسان . (4)
إذن السيادة مقام واقعي ، وهي تتقوّم بشرطين :
1- الشرط الأول : تهذيب النفس ومحاصرتها :
هذه الصفة هي العمدة في الحصول على السيادة , وهي ما أشار إليه القران في حديثه عن يحيى بن زكريا عليهما السلام فقال ( وَسَيِّدًا وَحَصُورًا ) آل عمران : 39
الحصار هو السجن ، والحصور ليس هو من لا يتزوّج ، بل هو الذي يحاصر شهواته ورغباته .ولابد للسيد أن يكون حصوراً , لأنه كثيرا ما يقع ذو الموقع والوجاهة في وهم التفرد والتميّز على الآخرين فيطلق العنان لنفسه وشهواته , وتنتفخ فيه الذاتية فيمارس ما تمليه عليه نفسه بلا رقابة فيبيح لنفسه ما لا يبيحه لغيره ، في الوقت أن أحوج ما يكون الإنسان لمحاصرة نفسه وتهذيبها حين يكون له مقام وموقع ورفعه بين الناس .
التعاطي السليم مع النفس في حال الحصول على موقع ومقام هو ما جاء في دعاء مكارم الأخلاق : (وَلا تَـرْفَعْنِي فِيْ النَّاسِ دَرَجَـةً إلاّ حَطَطْتَنِي عِنْدَ نَفْسِي مِثْلَهَا) الإمام زين العابدين عليه السلام في هذا المقطع من الدعاء يطلب من الله أن يريه حجمه الواقعي ، فإذا ما ارتفع الإنسان بين الناس وأصبحت الناس تلجأ إليه وتحف به وأصبح له تفوق خاص فإن هذا يعني صفارة إنذار تنبئه بأنه في خطر . وإذا أراد الله به خيراً أراه حجمه الواقعي فحطه في نفسه بنفس قدر ارتفاعه في نظر الناس . هذه هي السيادة الواقعية، وهذا بلا شك يحتاج إلى ضبط شديد جداً بل يحتاج إلى محاصرة للنفس .
إذن أهم خصوصيات السيادة التي يجعلها الله سبحانه وتعالى هي أنها سيادة تكاملية ، سيادة الترقي . فالسيد في المفهوم القرآني هو الرفيع المنزلة في ذاته , وهو من يقصده سواد الناس ويتشخّص لونه عنهم ولكن بامتيازات واقعية .
السيادة في الروايات
لقد تحدثت الروايات عن السيادة بذات المفهوم القرآني القائم على حصار النفس وترقيتها . جاء عن الإمام علي عليه السلام (السيد : من لا يصانع ، و لا يخادع ، و لا تغره المطامع) (5) .
عادة نقرأ هذه المعاني قراءة أخلاقية , لكن دعونا نرفع سقف القراءة من الحدّ الأخلاقي إلى الحدّ الزعامتي والقيادي .
السيد لا يصانع . المصانعة في اللغة هي المداهنة والملاينة , والمصانعة أيضا عند العرب هي البيع والشراء , وهذا لا يتناسب والسيادة , لأن السيد صاحب مبدأ وموقف ثابت , وهذا لا يتناسب مع المصانعة التي تجعل الإنسان لا يسجل موقف خلاف مع أحد , ويسعى أن لا يخسر أحداً , يقول الشهيد المطهري : المنافق فقط هو الذي لا يخسر أحداً .
نحن لا ندعو إلى التمزيق الداخلي وتفجير الواقع الاجتماعي فنحن مأمورون بمداراة الناس , لكن بالالتزام بالمبادئ التي هي أهم سمات السيادة الواقعية .
ثم إن السيد لا يخادع ، والمخادعة ليست كالرياء أي أن تختص بالعبادات فقط , فالمخادع هو من يشتري الوجاهة بأي ثمن كان حتى لو كان الثمن أن يظهر متديناً متعبداً , أو أن يشتريها بالهروب من الموقف الجاد أو بموافقة الرأي العام ، هذا كله ينافي السيادة لأن السيد من ليس في رقبته بيعة لأحد سوى لله.
وأخيراً السيد لا تغريه المطامع . من المعلوم أن صاحب أي موقع وسيادة تحيطه الإغراءات الكثيرة ، فإذا انساق لها كان ذلك كاشفاً عن أنه لم يحاصر رغباته وشهواته ولم يصل إلى مرتبة السيادة .
2- الشرط الثاني : صناعة العزة للآخرين:
من أهم آفات الموقع والوجاهة والسيادة الوهمية هي التشبث بالموقع ، وهذا يقتضي إقصاء الكفاءات أو تعطيلها , بينما تقوم السيادة في القراءة الدينية على بناء الكفاءات وتطويرها وإبرازها . فاذا كان الانسان سيداً في مجال العلم الديني فيجب أن يقدّم هذا العلم خدمة للناس ليكونوا علماء ، وإذا كان سيداً في علم الطب فيجب أن يبذل ذلك من أجل نفع الناس وهكذا ، لأن السيد سخيّ . ( لما سئل الإمام الصادق عليه السلام عن السؤدد قال : السخاء، ويحك أما رأيت حاتم طي كيف ساد قومه، وما كان بأجودهم موضعا ؟!) (6) . والإعطاء هنا بلا شك أعم من إعطاء المال وإن كان منها ، بل السخاء هو فتح المجال لكل الطاقات باكتشافها وصناعتها وتطويرها .
وروي عن الإمام الحسن عليه السلام : الإعطاء قبل السؤال من أكبر السؤدد (7) حين يطلب منك الناس أن تعلمهم وتفعل ذلك فهذا سؤدد , لكن حين تفتح لهم ـ دون طلب ـ طريقا يحببهم في طلب العلم وتبذل من علمك ليترقوا بالمعرفة فهذا من أكبر السؤدد .
كما ورد في الرواية ( سيد القوم خادمهم ) (8) التي نقرؤها غالباً في سقف محدود ونحصرها في الخدمات الجزئية لكنها في الحقيقة مطلقه . السيادة تستلزم الخدمة لكنها لا تنحصر في أن تعلم جاهلا أو تقضي حاجه ملهوف أو أن تتبرع بمال … السيد يقدم خدمات تتناسب ومقام السيادة ، وشأن السيادة تقديم الخدمات الكبار .
يقول تعالى : ( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ) الأحزاب: 39 ، السيادة التي هي نواة القيادة تعني تقديم مصالح الأمة والإنسانية على الدعة والراحة وتقديم المصالح الواقعية على الأمان الشخصي ، فالذي يبلغ رسالات الله عندما يريد أن يكون سيداً وخادماً للناس فهو يتحرك لنزع الدنيا من أيدي الجبابرة ويقدم في سبيل ذلك كل ما لديه حتى لو خاطر بنفسه لأن السيادة هي أن تنصب نفسك خادماً للمصالح الكبار.
السيد الواقعي في أجلى صورة يبينه أمير المؤمنين عليه السلام بقوله : ( ما ساد من احتاج إخوانه إلى غيره ) (9) السيد الواقعي هو من امتلك مؤهلات السيادة التي تجعل الجميع وبشكل طبيعي يرجعون إليه , هو من يقصده الآخرون تلقائياً من غير أن يعطيهم أحد عنوانه .. لأن تعاطيه بذاته أمان للآخرين ولأنه يقضي لهم كل حوائجهم . والمصداق الأبرز لذلك هو الإمام الحسين عليه السلام ، فهو الذي تحتاجه البشرية لنيل مآربها ، وتحتاجه الأنبياء لتتقرب لله بالبكاء عليه فهو سيد السادة وقائد القادة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــ
1- ذهب البعض إلى أهمية التزكية على التعليم بسبب تكرر تقديم التزكية على التعليم في القرآن .
2- مستدرك الوسائل 10 223 21- باب استحباب زيارة أمير المؤمنين
3- بحار الأنوار ج27 ص162 باب 6- ما ينفع حبهم فيه من المواطن
4- لهذا كان هناك فرق بين القيادة في المفهوم الإلهي عنها في المفهوم المادي , فالقيادة في المفهوم الإلهي تعتمد على السيادة وهي ما ذكرنا من كمال ذاتي تكون أرضية للقيادة , بينما في المفهوم المادي فالقيادة هي مجموعة من إمكانيات ومؤهلات خارجية كالخطابة والبيان والإقناع وغيرها مما يعدونه من سمات القيادة والحال أنها قشور .
5- غرر الحكم ص 341 ف 2 ح 7794
6- بحار الأنوار ج 78 ص 258 ح 142
7- أعيان الشيعة ج 4 ص 88
8- من لا يحضره الفقيه ج4 ص378
9- عيون الحكم والمواعظ