عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 12-03-2014, 03:53 PM
فاطمة الجشي فاطمة الجشي غير متواجد حالياً
Member
 
تاريخ التسجيل: Oct 2013
الدولة: الجبيل
المشاركات: 47
افتراضي القيادة الصالحة جعل إلهي (2)

وجعلته سيدا من السادة وقائدا من القادة - 2

القيادة الصالحة جعل إلهي (2)

قلنا أن حديثنا سيكون حول خصائص القيادة وضرورة وجود القائد في كل زمان ومكان. وقلنا أنه قبل الدخول في تفاصيل ذلك لا بد من بيان وتوضيح ثلاثة مفاهيم هي: الجعل - السيادة - القيادة. وقد فصلنا الحديث حول (الجعل)، وسنتمّ الحديث حوله أيضا في هذه الجلسة.

الجعل كمال وترقّ في شقّي الصلاح والفساد
ذكرنا أن الجعل هو: صيرورة معنوية وتحول وانقلاب وترقٍ وكمال في أصل الأشياء وذكرنا الجانب الكمالي في هذه الصيرورة.
على أن هناك فرق بين استخدام مصطلح الكمال بالمعنى الفلسفي واستخدامه بالمعنى العرفي ، فالكمال في المعنى العرفي يُفهم منه النمو الإيجابي في جانب الفضائل, أما الكمال بالمعنى الفلسفي فيعني وصول الشيء إلى هدفه. وهذا يعني أنه يشمل – أيضا- جانب التسافل والفساد.

فكل الموجودات-وفق المباني الفلسفية- مشمولة بنظام الحركة الجوهرية، ولذا حتى الانحدار إلى الدركات السفلى هو – أيضا- وصول إلى الغاية والهدف. في ذلك يقول الله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ ﴾ [القصص: 41]. فالمنحرف يهدف إلى الوصول إلى اللذة والجبروت والسلطة وهذا بالنسبة إلى مقصودة تكامل، والجعل في الآية السابقة ناظر إلى هدف أولئك. فإذا ما امتلأ الإنسان بالقوة السبعية والحيوانية وصار قلبه أقسى من الحجارة فإنه قد وصل إلى صيرورة يتسافل بها ويصبح إماما إلى النار.

وورد الجعل أيضا في قصة نبي الله إبراهيم : ﴿فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلاَّ كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ﴾ [الأنبياء: 53] فقد كانت للأصنام في نفوس المشركين موقعية ليست هي موقعيتها الحقيقية، لذا جعلها خليل الله جذاذا وحولها إلى حقيقتها الواقعية وذلك بتحطيمها ليسلب من النفوس حالة القدسية الوهمية لها.

ومنه أيضا ما جاء في دعاء عرفه (لَا تَذَرْنِي فِي طُغْيَانِي عَامِهاً، وَ لَا فِي غَمْرَتِي سَاهِياً حَتَّى حِينٍ، وَ لَا تَجْعَلْنِي عِظَةً لِمَنِ اتَّعَظَ، وَ لَا نَكَالًا لِمَنِ اعْتَبَرَ... وَ لَا تَجْعَلْنِي لِلظَّالِمِينَ ظَهِيراً، وَ لَا لَهُمْ عَلَى مَحْوِ كِتَابِكَ يَداً وَ نَصِيراً، وَ حُطْنِي مِنْ حَيْثُ لَا أَعْلَمُ حِيَاطَةً تَقِينِي بِهَا..).

لكن سياق حديثنا لن يتناول هذا الجانب من الجعل, بل سيتناول الجعل الإلهي في جانب الكمال الإيجابي الذي يساوي السعادة والفوز والشرف والرفعة.

الجعل في حركته التكاملية نوعان
- جعل الفرد. - جعل الأمة.

1- جعل الفرد: كما الإمام الحسين صلوات الله عليه ، على ما ورد في نص زيارته (وَجَعَلْتَهُ سَيِّداً مِنَ السادَةِ، وَقائِداً مِنَ الْقادَةِ), وكما في قول الله لنبيه داوود عليه السلام: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾ [ص: 26].

بمقتضى ربوبية الله وحاجة الناس للحاكم فإن الله يختار وينتقي من خلقه أفرادا لهم امتيازات خاصة ثم يضفي عليهم كمالا إضافيا ليكونوا خلفاء ويحكمون بين الناس بالحق.

والناس من حيث الأصل مسلطون على أنفسهم وأموالهم وهذا من حكمة الله (1)-لأن طريق الكمال اختياري وانتخابي- وفي الأصل لا حاكمية لأحد على أحد، ولكن الإنسان يحتاج إضافة إلى هذه الذخيرة والرأسمال الأساسي (العقل- الإدراك – التجربة ..) التي وهبه الله إياها إلى راس مال إضافي هو (الجعل) الإلهي. فعندما يجعل الله داوود خليفة للناس يحكم بينهم بالحق، فإنه قد جعل له علاوة على رأس ماله الأصلي نورا إضافيا وقدرة على التشخيص وتحديد المصلحة. هذا ما يعنيه الجعل الإلهي للفرد.

2- جعل الأمة: وهو مورد حديثنا، ومعناه إضافة كمال وشرف ورفعة للأمة. يقول الله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: 143].

هذه الآية من الآيات المهمة في الدائرة الكلامية والعقائدية والفقهية, وهي تتكلم عن جعل استعدادي تشريفي معنوي تعظيمي للأمة لا للفرد وعلى ذلك أدلة:

الدليل الأول: الدليل اللفظي في قوله (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) فـ (ذلك) في اللغة العربية إشارة إلى البعيد، فالله – مثلا- حينما يريد أن يتكلم عن القرآن الذي نقرؤه بين أيدينا يقول: ﴿ذَلَك الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 2] و يشير بـ (ذلك) إلى تلك المعاني والمطالب الراقية في القرآن ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الزخرف: 4]. و(كذلك) التي وردت في الآية فيها نفس النكتة فهي تشير إلى العالي المرتفع (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ)أي أنه جعْل رفيع عالٍ وبه كرامة وتشريف وترقٍّ للأمة، كما أن الشروع بها يشير إلى جعل مرتبي في درجة رفيعة.

الدليل الثاني: السياق الذي نزلت فيه الآيات، فإننا نجد الحديث في عامته عن خصائص هذه الأمة. فالآيات السابقة كانت عن نبي الله إبراهيم وبنائه للبيت المشرّف، ودعائه أن يجعل البيت مثابة للناس وأمنا، وأن يجعل مقام إبراهيم مصلى، إلى أن صارت الآيات إلى قول تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ..﴾ [البقرة: 144] وإنما قال يرضاها رسول الله صلى الله عليه وآله لأنه كان يولي وجهه في السماء باحثا عن قبلة يرضاها، فلم تكن قبلة بيت المقدس مرضية عنده، لأنها ليست بمستوى طموحه لهذه الأمة، وتحويلها هو استجابة لدعاء إبراهيم عليه السلام.

هذه الأبعاد وهذا الطموح النبوي لم يكن معلوما لدى السفهاء, لذا قال القرآن ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [البقرة: 142] السفيه هو سخيف العقل والفهم، والخفيف في ردود أفعاله وهذا لن يفهم الفضيلة والملاك الذي من أجله تغيرت القبلة، وسيستشكل على القرار الإلهي قبل أن يفهمه, لأن السفيه لا يعرف معايير التوحيد وجذوره، وأن إبراهيم هو المرجع الأول لكل الديانات الإلهية, واختصاص المسلمين بالقبلة يعني قربهم من النبي إبراهيم ونسبتهم له، بخلاف سائر الأمم المليّة التي تتنازع على نسبة الخليل إليها.

إن تغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة التي بناها إبراهيم هو استجابة لدعاء الخليل وهو وقوع ملحمة من الملاحم الغيبية, ودلالة على صحة سير رسالة الأنبياء, وهذا لا يعلم تفاصيله إلاّ الموحدون، وهو شرف لهذه الأمة إذ تحولت لها مسيرة الأنبياء بعد أن كانت في نسل إسحاق. ومن لا يفهم هذا فهو سفيه لأنه يتكلم ويحكم دون اطلاع على التوحيد وتاريخ النبوات، ولا على تدبير الله تعالى وحفظه للقيادة الإلهية.

في هذا السياق الذي يتحدث عن تشريف هذه الأمة جاءت (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) لتوضح أنه في سياق هذا الكمال هناك مرتبة ثانية وموضوع آخر غير تغيير القبلة، وهو موضوع جعل هذه الأمة أمةً وسطا، وبالالتفات إلى هذا الملاك فإن هذا الشرف والرفعة لا يشمل كل الأمة. فالأمة فيها المكابر والمنافق والمنحرف وغيرهما، على غرار ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104].

ماهي الوسطية ؟
سنعرض رأيين حول مفهوم الوسطية:

الرأي الأول: الوسطية هي الاعتدال:

ذهب البعض إلى أن الوسطية هي الاعتدال بين الإفراط والتفريط. والمعنى أن الدين الإسلامي بالقياس إلى بقية الأديان الإلهية دين معتدل، فاليهود قد ابتلوا بالإفراط في الميل إلى الدنيا والحرص والبخل والوجاهة (2) ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 96].

ولهذا جاءت المسيحية برسالة روحية وطرح تزهيدي فيه إعراض عن الدنيا لتعالج ذلك الإفراط والحرص على الحياة الذي ابتلي به اليهود. وملاحظ أن الثقافة المسيحية ما تزال مبنية على ترقيق القلب (الإشراقية) حتى اخترعوا الرهبانية وانعزلوا عن القيادة وعن إدارة الشؤون الاجتماعية وعن معالجة الظلم ﴿...وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [الحديد: 27].

مع الإشارة إلى أن الله لم يذم حالة الرهبة من الله لأنها كمال روحي مطلوب، وكلمة ابتدعوها لا تعني هنا البدعة بالاصطلاح الديني اليوم أي إدخال ما ليس في الدين في الدين، بل هي بمعنى الابتكار الذي يبغون به وجه الله تعالى، فلما لم يتوازنوا في اندفاعهم الروحي ولم يرعوها حق رعايتها كانت موضع ذم.(3)

ومعنى وسطية الأمة الإسلامية هنا هو أنها لم تقع في إفراط اليهودية ولا في تفريط المسيحية، فهي لا شرقية كالمسيحية ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا﴾ [مريم: 16] ولا غربية كاليهودية ﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ..﴾ [القصص:44] بل إن تعاليم الدين الإسلامي وسطية على الجادة.

2- المعنى الثاني للوسطية: دور عملي هو الشهادة على الناس.

وهذا الرأي يذهب إليه صاحب الميزان, فيقول أن الرأي الأول صحيح في حدّ ذاته, ولكنه ليس المراد في الآية، والشواهد الداخلية والخارجية الحافة بالآية لا تتحدث عن هذا المعنى، وذلك لدليلين:

1- أن الآية هنا لا تصف الدين الإسلامي بل تصف أتباع الدين الإسلامي، فهذا الجعل ليس للدين وإنما للمتدينين. فالدين وصف في قوله : ﴿... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا...﴾ [المائدة: 3] بينما الأمة هي المعنية في قوله (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا).

2- مصطلح التوسط بمعنى الاعتدال يستخدم للتعبير عن التوسط الأفقي، لكن نفس الآية تتحدث عن توسط طولي لا أفقي (لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ) و (على) في الآية تفيد العلو والرفعة، فالميزان والمعيار ليس بين طرفين أحدهما في الشرق والآخر في الغرب بل بين طرفين أحدهما عالٍ والآخر دان.

فالوسطية هي الدور العملي الذي يحقق الاستعلاء على بقية الناس, وبه يتحقق مفاد الشهادة على الناس.

بحسب هذا الرأي يكون معنى الجعل هنا أن هذه الأمة قد جعل لها مرتبة ورفعة وقيادية وسيادية واقعية على سائر الناس, فهذه الأمة ليست أمة مسلوبة الوظيفة في الزعامة والشهادة على الأمم بل لها دور وعمل وشخصية.

ثم إن هذه الصفة (الشهادة) هي جعل فيه شرف ورفعة لأنه مرتبة بين الرسول والناس من جهة ولأنه إضفاء صفة من صفات النبي لهذه الأمة ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ [الفتح: 8] هذا الوصف الذي يعد من أبرز صفات القيادة قد أعطي لهذا الأمة.


يتبع
رد مع اقتباس