هذا فيما يرتبط بالبعد العام في المسألة فالتابوت ليس أشرف عند الله من قبور البقيع وليس أشد منها أثرا
أما حين تأتي إلى البعد الخاص فإن قضية البقيع أول من رفع رايتها هو رسول الله
صلى الله عليه وآله
سنرى فيما بعد كيف اهتم الرسول بالبقيع وكيف كان يحث المسلمين على الحضور فيه , حتى عد التواجد فيه منقبة, والدفن فيه كرامة .. ولولا أنا عرفنا ما جرى بعد رسول الله على بضعته الطاهرة وعلى أهل بيته من قومه وممن زعموا أنهم أصحابه لما وجدنا تفسيرا واضحا ومقنعا لكل هذا الإهتمام من رسول الله بارض البقيع ..
.. فلا الأرض مدفنا لنبي من الأنبياء !!, ولا هي مسجد !!, ولا تحمل في ماضيها ذكرى مرتبطة برسالات السماء !!!
فماهي إلا أرض عادية لا تختلف في طبيعتها وتاريخها عن غيرها من أراضي المدينة ..
فمن يقرأ تصرفات رسول الله في ظل ما حدث وجرى بعد ذلك في أرض البقيع يدرك أن هذه التصرفات فيها إشارات مستقبلية فهي تعطي إشارة اعتراض واحتجاج وإدانة لجماعة معينة سيكون لها موقف من هذه الأرض .. فمن جهة هي ستملأ جوف هذه الأرض بأحباب رسول الله بين مسموم ومذبوح ومغصوب ومظلوم .. ومن جهة أخرى ستجد جهدها لتعفي أثارهم وتهدم بيوتهم وتخرب قبورهم
لنمر مرورا سريعا على هذه الأرض ونرى كيف كان موقف رسول الله منها ..
بداية ما معنى البقيع ؟
أصل البقيع في اللغة (بفتح أوّله و كسر ثانيه)، الموضع الذي به اروم الشجر من ضروب شتّى».:
«البقيع من الأرض، المكان المتّسع، ولايسمّي بقيعاً إلاّ و فيه شجر».
فالبقيع إذا معنى عام وليس اسم علم موضوع لقطعة أرض خاصة فقد كان في المدينة أكثر من بقيع وقد أشارت المتون التاريخية والروائية إلى بعضها كبقيع الخنجة، بقيع الخيل، بقيع الزبير، بقيع المصّلي، بقيع الغرقد».
و الغرقد بفتح الغين المعجمة و القاف، بينهما راء ساكنة، هوكبار العوسج ..فقد كانت هذه الأرض مجتمعا لهذا الشجر
وبقيع الغرقد هو أول مدفن ومزار يعينه رسول الله (ص) للمسلمين من أهل المدينة الذين كانوا يدفنون موتاهم في مقبرة بني حزام وبني سليم أو في داخل بيوتهم .. فكان (ص)يدفن فيه الخلص من أصحابه . دفن فيه أسعد ابن زرارة ثم عثمان ابن مضعون أخ رسول الله من الر ضاعة ثم إبراهيم ابن رسول الله ثم صار الدفن في البقيع سنة وكرامة يستن بها المسلمون في حياة رسول الله وبعد مماته ,, وقد كان رسول الله يترحم على المدفونين في البقيع ويدعوا لهم
«قال المطري: انّ أكثر الصحابة رضي الله تعالي عنهم ممـّن توفّي في حياة النبي و بعد وفاته مدفونون بالبقيع و كذلك سادات أهل بيت النبي و سادات التابعين و في مدارك عياض عن مالك: إنّ هناك بالمدينة من الصّحابة نحو عشرة آلاف و قال المجدي، لاشكّ أنّ مقبرة البقيع محشوة با لجماء الغفير من سادات الأمّة
وقال ابن شبة في تاريخ المدينة المنورة
«حدّثنا هودة بن خليفة، قال: حدّثنا عوف، عن الحسن، إنّ النبي قام علي أهل البقيع، فقال: السّلام عليكم يا أهل القبور من المؤمنين و المسلمين، لو تعلمون ما نجاكم الله منه ممّا هو كائن بعدكم ! ثمّ نظر إلي أصحابه، فقال: هؤلاء خير منكم، قالوا: يا رسول الله ما يجعلهم الله خيراً منا؟
قد أسلمناكم أسلموا و هاجرناكما هاجروا، و أنفقناكما أنفقوا، فما يجعلهم الله خيراً منا؟ قال: إنّ هؤلاء مضوا لم يأكلوا من أجورهم شيئاً و شهدت عليهم و إنّكم قد أكلتم من أجوركم بعدهم، و لا أدري كيف تفعلون بعدي».
«روى الطبراني في الكبير، محمد بن سنجر في مسنده، و ابن شبّه في أخبار المدينة من طريق نافع مولي حمنه، عن امّ قيس بنت محصل، و هي أخت عكاشة إنّها خرجت مع النبي إلي البقيع، فقال: يحشر من هذه المقبرة سبعون ألفاً يدخلون الجنّة بغير حساب و كان وجوههم القمر ليلة القدر».
وقد كان رسول الله يهتم بالحضور في البقيع ويدعو أصحابه إلى ذلك
«في كامل الزيارات، كان رسول الله|، يخرج في ملاء من الناس من أصحابه كلّ عشيّة خميس إلي بقيع المدنييّن، فيقول: السّلام عليكم أهل الديار (ثلاثاً)، رحمكم الله
«و قد ورد في صحيح مسلم عن عائشة: إنّها قالت: كان رسول الله ، كلّما كان ليلتها من رسول الله، يخرج من آخر الليل إلي البقيع فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، و آتاكم ما توعدون غداً مؤجّلون، و أنّا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهمّ اغفر لأهل بقيع الغرقد».