![]() |
إنه الإنسان
مقالة أدبية بقلم الطالبة: زهراء الشملاوي
الفصل الأول / 1446هـ إنهُ الإنسان بينَ مدٍّ وزجرٍ عارِمَين أَرْهَقا كاهلَ الإنسانيةِ التي لم تزل تمرُّ على جدثِ الجراحِ فتُمطِرُهُ بأسئلةٍ حيرى ينتفِضُ أبجَدُها كلما سمعت قهقهة شياطينٍ على أطلال مذابح النُّسَّاكِ: أولَم تمُت تلك النّعرات؟!، أما زال رجيفهم يقتصُّ من أشلائي إذ يوقد النار بمزيدٍ من جمرٍ يئدُ البراعمَ قبل أن تُزهر؟! إلى متى سيظلُّ هذا الشر يعربدُ في الطرقات متأبِّطا أسطورة الأفّاك؟! وحتّام سيستحيينا ذُلُّ مُستأجَرٍ خَرِقٍ ما انفك يماجنه الهوى، لم يكن يسعى إلا لِيُغيِّبَ شمسَ الإدراك؟!. على محكِّ ذلك النزاع لم يكن هنالك من خيارٍ إلَّا: ألا تبقى الإنسانية على قيد الحياة؛ فهي الميتة على كل ِّ حال، كيف لا وقد شاء الطاغية - إذ فكّر ثمّ قدّرَ - أن يكون الأشرافُ بين مطارَدٍ منتظِرٍ لسطوةِ سلاحٍ متعطّشٍ لمسيلِ طهرِ دمائهم وبين لَجِيمٍ يقتله الصمتُ ألف مرةٍ في يومه وليلته يمقُتُ واقعا بَئيسا يدير دُفّته مارِقٌ يزرع في كلِّ بورٍ قشريّة الدين ومحدوديّته و يُحذي ظلَّ كلِّ دوحةٍ ضلالَه وعلمانيّته، ويا للصمتِ! إنه وصمةُ العار التي لا تُغفرُ زلتها إبّان نزفِ الأمّة المكتظٌّ بحروفٍ تُبعثرها الشكاية هنا وهناك. كم فكّرت مليًّا في الخروج من هذا المأزِق فلم تجد وسيلةً سوى أن تستغيث، لكنّ صوتَها المبحوح لم يكن ليسعفها، ولكنها سارت في تلك الدروب الموحشة مرتبكةً تتلفت يمنة ويسرة خشيةَ أن يفتك برمقها الأخير فتكٌ مُعاجِل، سارت تتعثر في أذيال صبرها ما تخرمُ مشيتها مشية الغريب الذي دوّى صوتَه ذات يوم: أما من ناصر! في ربوعِ وطنٍ كان الخذلانُ أنفاسَ واديه وسهله وكان الغدرُ سبيلَ جفائه ووصله، سارت على أملِ أن تجد في تلك الأزقّة بطولةً تقتات من علياءِ "هيهات منا الذلة" ولكن سرعان ماجنّ الليل بوحشته فتوقفت بُرهةً تستجمع قواها رغم أنها كانت ترهقها بوادر اليأس وتعييها قلة الحيلة، حانت منها التفاتة إلى محيطها فلم تجد سوى إحباطٍ يترصّد لها فجثت على ركبتيها وانهارت باكية ترمق بطرفها السماء: " يا مقيّض الركب ليوسف" ورجاؤها معلّق بحبال تلك القوة التي لم تُغلب قطّ. أكملت من حيث أومأت خطاها متوسّلة وإذا بها تجدُ بصيصًا لم تدرِ لمَ هفا قلبها إليه وشعرت أن في كنفهِ الحقيقة التي تُصلّي السكينة في مرافئ هديها!، اقتربت أكثر فخفق قلبها لمرأى إرهاصات سناه ثمّ أكملت تزدحم في ذهنها قوافلُ تمتطي ظهرَ آلائِها:(من أين؟) وأخواتها، اقتربت أكثر وأكثر رجاءَ أن تجد هُداها، دقّقتِ النظر وإذا بها تجد شيئا كانت ترى نظيرًا لملامحه فيما سلف من أيّامِ عزِّها الغابرة، حاولت أن تتذكره ولكنها لم تٌفلِح، ثمة شيء يدفعها للدنوّ بغية أن تستعيد ذاكرتها ضالّتها، استجمعت قواها وأذِنت لِخُطاها أن تكسر حاجزَ البعد وما إن دنت منه حتى صاحت: هي والله! إنها الرسالية التي تاقت نفسي إلى مغناها، إنها الأهزوجة التي كنتُ أغفو على ترنيمة أمانِ شعارِها: لبيكِ. نعم لم تكن لتتجسد تلك في غيرِ روحٍ أنشأها سرُّ العبودية لله لتحيا متحرِّرة من رقِّ التوافه والسفاسف ولتعيش الهدفيّة في كل سكناتها وحركاتها ولتؤرّخ الحرية لدنيا الناس كمنهج حياةٍ صدى حنيفيّته يهتف ساخرًا : ( ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ). إنها الروح التي علم الله منها صدق النية في السير نحو كمالها فهيّأ لها سريَّ الحوزة العلمية الذي ما إن أدنت يدها من عذب روائه حتى جاءها نداء الاصطفاء (وجعلنا من الماء كلَّ شيء حي) فكان العلمُ حياتها الذي لم تبغِ عنه حِوَلًا وكان لها من المدد الإلهي حظًا أوفر إذ أردفت النعم بـ ( وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيًا) فكان لها من التدرج في مقامات كمالها ما جعلها أهلا للتصدي لمقام المرجعية العظمى فبرزت تلك العالِمِيّة كأنموذج فدٍّ للتجديد وكمصداقٍ للمبدع المُلهم في مصنّفاتٍ قلَّ نظيرها. إنّها روح العظمة التي رفعها الله درجات لكنّ التواضعُ عَنْوَن زخمَ فضائلها بـ ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا) وهي ذاتها التي وشّت المعرفة الحقّة وشاحها بشذر خيوط (فلله العزة جميعا)، فانثنت يخامرُ أنفاسها إباءٌ لم يكن إرثًا من السلفِ الصالحين أو ممّا وجد عليه آباءه الطاهرين أو تأسّيًا بسيرة أجداده المرسلين فحسب، بل نتاجَ وعيِ فكرٍ استغرق بناؤه سنواتٍ من البحث الجاد والسعي الحثيث ليكون بعدها منهجًا لمعلمٍ ومُرَبٍ حمل أمر هداية الناس همًا على عاتقه، وليؤسس سُنن داعيةٍ استثنائيٍ لم يكن شيءٌ أحبُّ إلى قلبه من التجرُّدِ من الألقاب التي خلعها عليه من حوله انبهارًا بما كان فيه من جمالٍ خلعته عليه الأيام، وليصبح روضةَ هدْيٍ يجد العرفاء في فيء دوحِها مستراحهم، وليرسم خطى قائدٍ امتطى ظهر البسولة فحذا حذوه الأحرار ونسجوا على منواله في سيرهم وسلوكهم نحو الانعتاق من براثن الظلم الذي استأسدت سطوته كَجَورٍ أرعن يسلب من الإنسانية رداءها دون وجه حقٍ ويُحيل الحياة الكريمة محض حلمٍ تشرئب نحوه الأعناق دون أن تستطيع إليه سبيلًا. إنه الفدائيُّ الذي أبى أن يعيش ذليلًا فانتفض ثائرًا بكل ما أوتيَ من فكرٍ وقلمٍ وشخصيةٍ مؤثرةٍ غير آبهٍ لتلك الأضغان التي رشقته بسهم جُفائها كلما عجّت نجواه إلى عقيدتهِ: لبيكِ إنّ شِلْوَنا غصنٌ سيودّعُه جوى كلِّ أراكةٍ قُطعت لئلا تستظل بها شكايةٌ ترفض كل من أراد أن يغتصب الحقَّ ممن لهُ قد شُرِعَ ليُورِقَ شوكةً في حلق كلِّ من كان له شيطان يعتريه يوسوس له بدعا. إنه إبراهيم زمانه الذي جُعل له لسان صدق في الآخرين فكان -بما أوتي من كمال الإنسانيةِ- رعبًا يطارد النمرودَ في يقظته ونومه؛ إذ علم يقينا أنه من أُودعته السماء مِدية إهلاكه، وأنه سيُضحي ذِبحُ الإنسانية الذي يُهرق في سبيل الحق جِرار عشقه فيحيي رعافُها كلَّ شعيرة كان يخال الباغي أن بإمكانه إطفاء نورها، وأنه المقاوِم الذي إن هوَت دماؤه في محراب الهيام غضبى فإنها ستؤمُّ نوائحَ الأكوان وإن تناثرت أشلاءُ ذكرِ سجدته فإنها ستنشر في الأفق أنفاسَ شوقٍ إلى سوح الرضوانِ، إنه صرخة الحق التي مَخَر أذانُها عبابَ جبروت المستكبرين فاستحال إعصارًا يدكُّ عروش ملكها العقيم. حقًّا إنه منحة السماءِ التي كنت تناغي بها الإنسانية حُلمَ أمسياتها وتُهدهد باسمه مَهْدَ غَدِها الذي كان يُقلقه شبحُ الاستضعاف، إنه بطلها الخارق الذي أطلَّ من شرفة الإسلام كـ : "مفكر إسلامي فذ كان مؤمَّلا انتفاع الإسلام من وجوده بقدر أكبر" كما عبر السيد الخميني (قدست نفسه الزكية)، فسلام الله عليه حين خُلق من فاضل طينة الإنسانية الحقّة يُنقل من طيب ِأصلابها إلى طهر أرحامها، ويوم وُلد كيانًا تمثّلت فيه الخلافة الإلهية للإنسان في الأرض؛ إذ عمرت به البلاد وصلُح به أمر العباد، ويوم استشهد في سبيل الله وفداءً للإنسانية، ويوم يُبعث حيًّا يشهد له كلُّ شيء بإنسانيةٍ لم تعرف البشرية لوفائِها نظيرًا. |
الساعة الآن 11:30 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, vBulletin Solutions Inc.