![]() |
الدولة والأسرة و ومحورية التربية والتعليم
الدولة والأسرة و ومحورية التربية والتعليم
إيمان شمس الدين من أهم الوظائف على الاطلاق سواء في الدولة أو في مؤسسة الأسرة هي وظيفة التربية والتعليم ، لتعاطيها المباشر مع الإنسان حيث تقوم بعدة وظائف : الأولى : بناء العقل معرفيا وفلسفيا الثاني : صناعة الوعي الثالث : توجيه السلوك وفق أنماط تصنعها الدولة تتناسب والهوية ويصنعها المجتمع قبلها وفق مجموعة من العادات والتقاليد والقيم التي تشكل هويته، أو تصنعها الأسرة وفق نموذج إما يقدمه الوالدين أو يوجهان باتجاهه. لذلك تعتبر مؤسسة الأسرة من أهم المؤسسات التي أولاها الإسلام أهمية خاصة وصنع لها منظومة متكاملة لتشكل حاضنة مأمونة للأجيال الذين يشكلون وقود الأمة في صناعة مستقبلها ومواجهة كل الاشكاليات والعقبات التي تواجهها مما يجعلهم واقعا يحتاجون لتأسيس علمي تربوي متين يؤهلهم لوظيفة الاستخلاف . وتكمل الدولة بمؤسساتها وظيفة الأسرة في المجتمع أي خارجها ، كون الرصيد البشري المتعلم هو رصيد دائمي الاستثمار ، لا يتضب وكنز لا يقدر بثمن. ويصب في صالح تطوير هذه الدولة في كافة المجالات والاسهام في دعم مسيرتها في الاكتفاء الذاتي الذي يمكنها من الاستقلال ويقوي رصيدها الوجودي بين دول العالم ويقلل من فرص التدخل والهيمنة الخارجية ، ويحفظ لها سيادتها. إلا أن الأدوار بين الدولة والأسرة غير منفصلة بل متصلة ومتكاملة لأن من وظيفة الدولة أيضا أن تؤهل المؤسسة الأسرية من خلال مجموعة برامج تشرف على تثقيف حقوقي وشرعي لكلا الزوجين يتعلق بحقوق كل منهما وحقوق الأولاد في كل مراحلهم العمرية ، لتضمن حاضنة أسرية سليمة للأفراد القادمين . إذا الدولة معنية بمرحلتين : المرحلة الأولى : تأهيل الأفراد حقوقيا وشرعيا لبناء المؤسسة الأسرية بناءا تتحكم في إطاره العام القوانين والأحكام الشرعية ، وتشيد قواعده الحقوق وتكمل مسيرته قيم الحب والمودة والسكن . المرحلة الثانية : توفير بيئة تعليمية وتربوية من خلال تشييد مؤسسات معنية بذلك ، في كل محاورها كالمناهج المبنية على منطق السؤال والعقل الفلسفي ، والكوادر الكفوءة والمدربة بدرجة عالية من قبل مؤسسات للدولة معنية بذلك ، والآليات والأدوات التي تتعاطى مع المنهج بأسلوب علمي وعصري يتناسب والزمان والمكان ولغة العصر بما يحافظ على ثوابت الهوية وبناء الذات. وأهم محور في ملف التعليم والتربية في الرحلة الثانية هو المناهج التعليمية وكوادر التعليم وآلياته ، كونه المادة التي توظف رصيد الأجيال وتؤهلها للاستثمار السليم . لذلك لا يكفي أن تقوم الأسرة أو الدولة بتوفير المدارس والمدرسين والكتب، الأهم أن تؤسس لعملية التربية والتعليم تأسيسا قائما على أسس منطقية وفلسفية تنهض بالعقل الناقد لأهميته في عملية النقد والتقييم والتطوير. ولعل أهم أسباب تردي الواقع المعرفي والفكري ومنتوجاته وكفاءة مشاريعه في الوطن العربي هو تردي مناهج التعليم وعدم كفاءة كوادره وقِدم الوسائل والآليات والأدوات في المسألة التعليمية ، وأهم من ذلك هو أسلوب التلقي والتلقين الذي تم تربية أجيال وأجيال عليه حتى تراكم ذلك كميا فتغيرت بنية العقل نوعيا ، وتغيرت كل المسيرة باتجاه آخر بعيد عما أراده الإسلام . بين واقع الأنظمة والنظرية التعليمية : إلا أن هكذا تنظيم وتأدية وظائف يتطلب سقف عالي من الحرية في دولة قانون ودستور ومؤسسات ، وهو غالبا لا يتوفر في الدول العربية نتيجة إما أنظمة التوريث التي يحتاج بقاءها إلى نظام تعليمي هزيل يحجب العقل ومن ثم يطمس هويته ووظيفته فيسهل بذلك انقياد الشعب لها، ويتحالف معها فقهاء السلطة لنفوذهم بسلاح الفتوى التخديري والتعطيلي للعقل، كونه يوظف آلة الدين لتمكين نفوذ السلطان وليس لتحرير الإنسان من ربوبية غير الله. أو هي أنظمة استبدادية يحكمها شخص ، أيضا يقوض الوظيفة التعليمية ويقلب هدفها من التوعية التنوير وتثوير العقل لبنائه بناءا ناقدا ، إلى هدف أساس هو تكريس سلطته، بالتالي توضع المناهج بناءا على هذا الهدف. طبعا هذا لا يعني عدم سعي هؤلاء للتطوير ولكنه أيضا تطوير يخدم تمكين نفوذهم وليس تحرير وخدمة وعي الشعوب. العقل الفلسفي والتلقين: فلم يعد للفلسفة وجودا تأسيسيا في المناهج كون المنهج الفلسفي يبدأ من الصفر وينطلق بطرح التساؤلات التشكيكية للوصول للحقيقة ليبني عقلية ناقدة تعتمد السؤال والنقد والشك الإيجابي ركائز في منهج التعليم . فالعقل الفلسفي عقل يعتمد على السؤال في عملية التعليم ، وهي الطريقة التي تم تغييبها في نظام التعليم في الوطن العربي، كون الفلسفة من المواد التي تبني ذهنية برهانية قادرة على النقد ورافضة للحشو والتلقين ، وهو ما لايتناسب مع أنظمة الحكم كونه يقوض وجودها أو يخضعها دوما لضغط الجمهور الذي يدفعها لتلبية مطالبه الاصلاحية، فيقلل من هيمنته على ثروات وموارد البلاد ويجعلها تحت مجهر الرقابة والتقييد. فكانت الخطة بتحويل أنظمة التعليم للنظام الحشوي الذي يتلقى فيه العقل المعلومات بنظام التلقين القريب من ثقافة القطيع والتي تكرس وجود الأنظمة وقيمومتها على رقاب الناس وأرزاقهم. ثقافة السؤال والشك الإيجابي والقلق المعرفي هي أساس وجودي للعقل الإنساني في بناءاته المعرفية وتراكماتها وكمالها، بل أصل في البحث عن الحقيقة ، وتغييب هذه الثقافة وتحويلها لثقافة القطيع بالتلقين هو سلب للعقل وتقويض لدوره ومنع تفعيل هبة الخالق لخلقه، وقبولنا بهذا المنع هو مشاركة حقيقية في جريمة قتل العقل المعرفي الفلسفي وإحلاله بعقل النعاج التي لا تعيش إلا وفق ثقافة القطيع . لذلك نجد كثير من الأنظمة المستبدة وخاصة في الخليج استطاعت أن تطيل عمر وجودها في الحكم بسبب تغييب تدريس الفلسفة من المدارس كمادة أساسية في بناء العقل العرفي البرهاني القائم على النقد والسؤال وتغييب منهج السؤال من ذهنية الكادر التعليمي وإحلاله بمنهج الحشو والتلقين والحفظ لا الفهم. القصور التعليمي والشعور بالحاجة: هذا التقصير من قبل أنظمة الدول والتي أحد أهم وظائفها وضع استراتيجيات للأمن الإنساني ومن أهم مصاديق هذا الأمن توفير سبل التعليم السليمة التي تطور عقل الإنسان وتقلل مساحات الخلل ، هذا القصور النعليمي الناتج عن تقصير الدولة يرفع من حاجة الناس في عصر العولمة لتطوير مداخيلهم العلمية وقدراتهم العقلية ، كون نظام القرية الواحدة مكن الشعوب من اكتشاف واقعهم المتردي مقارنة مع غيرهم من الشعوب ، فأعاد إلى عقولهم مجددا ثورة السؤال والنقد والطلب من هذه الأنظمة للقيام باصلاحات جذرية تحقق لها طموحها العلمي والتنموي ، ولعب تقصير هذه الأنظمة دورا محوريا في تمكين خطط آخرين من التسلل لتلك الدول لاشباع هذه الحاجات التعليمية التي تمس عمق حاجة الانسان باستراتيجيات علمية لها ابعاد خارج مقاصد العلم ، بحيث تستطيع من خلالها اكتشاف العقول المميزة والهيمنة عليها ومن ثم هجرتها إلى حيث هي بحجة العلم وبمنح دراسية مغرية، ومن ثم الاستفادة منها كعقول مهاجرة توفر لها مادة البحث العلمي وتدعم مسيرتها التطويرية العلمية ، تستطيع من خلالها نشر ثقافتها وعولمتها عبر هذه البرامج أو توظيف وتجنيد أدوات لها داخل الدول تكوني جاهزة لتنفيذ أجندتها فيها. فتقلل مساحات السيادة داخل الدولة بتوسيع هيمنتها والنفوذ إلى مراكز القرار لتتولى دور الضغط على السلطة لتحقيق رغبتها الاستعمارية. طبعا كثير من الأنظمة المتحالفة مع الغرب وأمريكا -لتمكين تفوذها وضمان استمرارها في الحكم - لعبت دورا محوريا في الهبوط بمستوى التعليم تنفيذا لرغبات هذه الدول التي تعتبر وعي هذه الشعوب عدوا يهدد وجودها. وإلا ماذا نفسر التقدم العلمي والتقني للكيان الصهيوني المتواجد في قلب الأمة العربية الرازحة تحت سطوة الجهل والتجهيل ؟ وقد يحاكي واقع الثورات هذه المعطيات ، حيث تلمست الشعوب هذه الحاجة ودفعها الحرمان وشظف العيش للشعور بالظلم وانتقاص الحقوق ، فخلق لديها رغبة في التغيير والاصلاح ولم تجد بدا إلا بإسقاط أنظمة متمثلة بأشخاص لكنها فشلت في تغيير تلك الأنظمة ومنهجيتها ، وهو ما يتطلب منها رسم استراتيجية بناء جديدة للدولة تكون التربية والتعليم مرتكزا أساسيا فيه والفلسفة منهجا تأسيسيا لكل العلوم كي تضمن عقول الأجيال القادمة وتحقق مرحليا وتدريجيا هدف العملية التعليمية والتربوية، وهي الثورة الحقيقية التي تنتج واقعا جديدا وتعطي أملا في بناء مستقبل للأجيال مشرقا بالعلم والعمل. أما مجرد سقوط أشخاص من كرسي الحكم وبقاء أنظمتهم ومناهجهم فإن ذلك لا يغير من الواقع الكثير ، بل يمكننا أن نعتبرها ثورة شكلية لا أكثر. التربية والتعليم وهدف التوحيد إن أحد أهم ركائز تحقيق عقيدة التوحيد تكمن في العملية التربوية والتعليمية، تقول جميلة علم الهدى في كتابها النظرية الاسلامية في التربية والتعليم :" إن النفس الإنسانية التي تمتلك ميزتين ذاتيتين أساسيتين - الحرية والوعي - تسعى للحصول على المصادر التي تمنحها الوجود والوصول إلى الوجود الخالد الكامل التام ، والهروب من كل العوامل التي تمنعها من ذلك وتحول بينها وبين وصولها إلى تلك المصادر ". ولكي تمتلك وعيا بهذا الحجم لابد أن يكون لديها عقلا واعيا وملتفتا إلى أهمية موضوع الوجود ، حيث فطرة الإنسان في حب البقاء والكمال تشكل ركيزة في هذا السعي وعقله الواعي يشكل العلة التامة لاخراج تلك الحقيقة الفطرية من القوة إلى الفعل. لذلك تعتبر التربية وسيلة في تحقيق الربوبية التامة من خلال تقليل فرص هيمنة المستكبرين واتخاذهم أربابا ، وتمكين سلطة الله ومحوريته في الحياة لا سلطة الفرد وهيمنته . فالاستبداد يقوم على ركيزتين معاكستين لميزتي للنفس الإنسانية - الحرية والوعي - وهما القمع أو المنع للحرية والتجهيل والجهل. وبهما تتمكن من تحقيق مبدأ فرعون في " أنا ربكم الأعلى " فيشكل المستبد بربوبيته القهرية مرجعا ومحورا في سريان سلطته على كل شيء ومنهجه في كل شيء وهو مخالفا لدعوة القرآن الكريم " ألا يتخذ بعضنا بعضا أربابا" كي يمكن سلطة الله على الإنسان لا سلطة الإنسان على نظيره في الخلق. لذلك تعتبر وظيفة التربية والتعليم من أهم وظائف الأنبياء وأشدها على الاطلاق لدقتها وهي الخطوة الأولى التي يبدأ في النبي ص دعوته إلى الله ، فمن التأهيل إلى التمكين مشوار طويل يطويه الأنبياء في العلم والتزكية والتعليم لتحقيق الهدف الالهي في التوحيد. لذلك كان غالب الجدل الإنساني في هذا الوجود يرجع منشأه للصراع الداخلي للفرد وعدم نضج العقل لمرحلة يكون قادرا فيها على الهيمنة على تلك النفس ، فانتشار الجريمة والأمراض الأخلاقية يعود سببه الرئيس للتقصير المنهجي في عملية التربية والتعليم وتحويلها لعملية حشوية تخلق عقليات تابعة تعبدية بالمعنى السلبي. وعليه نحتاج استقراء للقرآن والسيرة النبوية الشريفة والأحاديث الصحيحة للخروج بالنظام التعليمي والتربوي في الاسلام ، كي يتحول لمشروع تربوي قابل للتنفيذ وفق محاكاة لواقع كل دولة على حدة ، بحيث يمكن تبيأته وفق ثقافة وبيئة كل شعب كونه قائما في داخله على عنصري الأصالة والخلود. echamseddin@gmail.com |
الساعة الآن 01:04 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, vBulletin Solutions Inc.